القلق.. القاتل رقم 1 في أمريكا !

الخبراء بحياة الغرب يشكون من مرارة الكفاح الدائر في أرجائه للحصول على المال والمكاثرة به ، فالأفراد والجماعات منطلقون في سباق رهيب لإحراز أكبر حظ مستطاع من حطام الدنيا


وقواهم البدنية والنفسية تدور كالآلة الدائبة وراء هذه الغاية، وقد احتشدت فيها جميع الخصائص الإنسانية الدنيا والعليا ، إلا أن الآلات قد يقطر عليها من الزيت ما يرطب حدة الاحتكاك في حركتها، ويمنع الشرر المتولد من إحراقها، أما أعصاب الناس في عراك المادة الرهيب فكثيرًا ما تفقد هذا العنصر الملطف، وتمضي مستثارة يستبد بها القلق والضيق حتى تشتعل فتأتي على الأخضر واليابس. 

وقد كتب (ديل كارنيجي) يصف مشاهد هذا السعار المادي وما خلفه في النفوس والجسوم من بلاء فقال: "عشت في نيويورك أكثر من سبع وثلاثين سنة، فلم يحدث أن طرق أحد بابي ليحذرني من مرض يدعى القلق، هذا المرض الذي سبب في الأعوام السبعة والثلاثين الماضية من الخسائر أكثر مما سببه الجدري بعشرة آلاف ضعف، نعم لم يطرق أحد بابي ليحذرني أن شخصًا من كل عشرة أشخاص من سكان أمريكا معرض للإصابة بانهيار عصبي مرجعه في أغلب الأحوال إلى القلق!! " .

ويقرر الأطباء أن واحدًا من كل عشرين أمريكيًا سوف يقضي جانبًا من حياته في مصح للأمراض العقلية، ومن الحقائق المرة أن واحدًا من كل ستة شبان تقدموا للالتحاق بالخدمة العسكرية في خلال الحرب العالمية الأخيرة رد على أعقابه، لأنه يعاني مرضًا جسميًا أو نقصًا عقليًا.... قال: " وألقى الدكتور (هارولدسين هابين) الطبيب بمستشفى (مايو) رسالة في الجمعية الأمريكية للأطباء والجراحين العاملين في المؤسسات الصناعية قال فيها: إنه درس حالات (176) رجلًا من رجال الأعمال، أعمارهم متجانسة، في نحو الرابعة والأربعين، فاتضح له أن أكثر من ثلث هؤلاء يعانون واحدًا من ثلاثة أمراض تنشأ كلها عن توتر الأعصاب، وهي: اضطراب القلب، وقرحة المعدة، وضغط الدم. ذلك ولما يبلغ أحدهم الخامسة والأربعين بعد! أهذا هو ثمن النجاح؟ هل يعد ناجحًا ذاك الذي يشتري نجاحه بقرحة في معدته، ولغط في قلبه؟ وماذا يفيده المرض إذا كسب العالم أجمع وخسر صحته؟! ".

لو أن أحدًا ملك الدنيا كلها ما استطاع أن ينام إلا على سرير واحد، وما وسعه أن يأكل أكثر من ثلاث وجبات في اليوم، فما الفرق بينه وبين (الفاعل) الذي يحفر الأرض؟! لعل (الفاعل) أشد استغراقًا في النوم، وأوسع استمتاعًا بطعامه من رجل الأعمال ذي الجاه والسطوة. 

ويقول الدكتور (و.س. الفاريز): " اتضح أن أربعة من كل خمسة مرضى ليس لعلتهم أساس عضوي البتة، بل مرضهم ناشئ عن الخوف، والقلق، والبغضاء، والأثرة المستحكمة، وعجز الشخص عن الملاءمة بين نفسه والحياة"

على ضوء هذه الصيحات المحزونة نحب أن نذكر بعض أحاديث النبي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذم هذا التكالب، والترهيب من عقباه: 
قال صلى الله عليه وسلم: "من جعل الهم همًا واحدًا؛ كفاه الله هم دنياه. ومن تشعبته الهموم؛ لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك"



هذا اللون من التوجيه النبوي يقصد به بث السكينة في الأفئدة، واستئصال جراثيم الطمع والتوجع، التي تطيل لغوب الإنسان وراء الدنيا، وتحسره على ما يفوته منها، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همه؛ جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له"

إن من حق الدنيا علينا أن نعمل فيها، وأن ننال من ضروراتها ومرفهاتها ما يحفظ حياتنا ويسعدها، وقد يكلفنا هذا العمل جهدًا شاقًا يتصبب معه العرق، ويطول فيه العناء، ولكن هذا الحق المقرر؛ وهذا الجهد المبذول لبلوغه؛ لا يجوز أن يميلا بنا عن الجادة، أو يزيغا بنا عن الرشاد. 

فالمال إذا طلبناه فلكي ننفقه لا لكي نختزنه، وإذا أحببناه وحصلناه فلنبذله فيما يحقق مصالحنا، ويصون حياتنا.ومن الحماقة أن يتحول المال إلى هدف مقصود لذاته، تذوب في جمعه المهج، وترتخص العافية، وتتكاثر الهموم، وتجتذب الأمراض!!.  

وللإسلام تعاليم طيبة في موقف الإنسان من دنياه، إنه يتجه ابتداء إلى القلب، فيغرس فيه العفاف والترفع، ويكره إليه الجشع والشراهة والتطلع. 

إن لعشق المال ضراوة تفتك بالضمائر والأبدان، وتورث المذلة والهوان، وانظر ما يعقبه الحب الشديد للمال، والقلق البالغ من فواته.. يقول (ديل كارنيجي): "من الحقائق المعروفة أنه عندما تهبط قيمة الأسهم في (البورصة) ترتفع نسبة السكر في البول والدم بين المضاربين!!. 

إن المال كالفاكهة الجميلة اللون، الشهية المذاق، وميل الطباع إلى اقتناء هذا الخضر الحلو معروف، بيد أن من الناس من يظل يطعم حتى تقتله التخمة، ومنهم من يختطف ما في أيدي الآخرين إلى جانب نصيبه المعقول. 

ومنهم من يدخر ويجوع، ومنهم من يشغله القلق خشية الحرمان، ومن يشغله القلق في طلب المزيد. وأفضل الناس من يأخذونه بسماحة وشرف، فإذا تحول عنهم لم يشيعوه بحسرة أو يرسلوا وراءه العبرات؛ لأن بناءهم النفسي يقوم وحده بعيدًا عن معايير المكاثرة، ورذائل النهم والتوسع.. 

ثم معرفة قدر الله جل شأنه بالنسبة إلى ما عداه. إن هذه المعرفة تنفي الأحزان عن صاحبها، وتذر في فؤاده ثقة تغمر يومه وغده بالراحة والرضا، قال تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ) [الرعد: 28-29]. 

أجل! طوبى لهم، إنهم سعداء بيقينهم وإخلاصهم واستقامتهم على المنهج الذي رسمه الإسلام لهم: "طوبى لمن طاب كسبه، وصلحت سريرته، وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله"
إن جماهير غفيرة من الرجال الذين تظلهم حضارة الغرب محرومون من هذه الوداعة. 

يقول (ديل كارنيجي): " لقد أثبت الإحصاء أن القلق هو القاتل رقم (1) في أمريكا، ففي خلال سني الحرب العالمية الأخيرة، قتل من أبنائنا نحو ثلث مليون مقاتل. وفي خلال هذه الفترة نفسها قضى داء القلب على مليوني نسمة ". 

ومن هؤلاء الأخيرين مليون نسمة كان مرضهم ناشئًا عن القلق وتوتر الأعصاب. 
نعم إن مرض القلب من الأسباب الرئيسية التي حدت بالدكتور (ألكسيس كاريل) إلى أن يقول: إن رجال الأعمال الذين لا يعرفون كيف يكافحون القلق يموتون مبكرين. 


وقد كنت أعجب كيف أن فلانًا امتلكه الحزن إثر كارثة عصيبة، فإذا بعض أضراسه قد سقط من فمه، ثم أدركت بعد كشوف الطب الحديث أن الأزمات النفسية العاتية شديدة الوطأة على الجسم، وأنها تحول العصارات الهاضمة إلى سموم، فلا تستفيد المعدة من أغنى الأطعمة بالغذاء، وأنها تفتت جير الأسنان، وتزلزلها من مستقرها العتيد. 

وقد قرأنا كيف أن بكاء يعقوب على ابنه أفقده بصره، وكيف أن الغم بلغ مداه بالسيدة عائشة –عندما تطاول عليها الأفاكون- فظلت تبكي حتى قالت: "ظننت أن الحزن فالق كبدي"

وقد أدرك الموجهون خطر الأحزان على كيان الأمم وإنتاجها، فتألفت في ألمانية منذ سنين جماعة جعلت شعارها: القوة في السرور. وإنه لخير للأمم أن تستقبل الحياة ببشر وأمل كي تستفيد من وقتها ومالها، ومن حقها على قادتها أن يجنبوها القنوط والتشاؤم والاستكانة، فإن هذه المشاعر الباردة تطويها في أكفان الموت قبل أن تموت. 

فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارض بما قسم الله لك؛ تكن أغنى الناس"؛ فلا تجعل الرضا ذريعة القصور والقعود. 

بل ارض بيومك، وأمل ما يسرك في غدك. 

المصدر : مك كتاب جدد حياتك - محمد الغزالي