بحث جاهز حول الرثاء والشعر التقليدي

يعتبر الرثاء من فنون الشعر التقليدية التي تناولها شعراء الأندلس وأفاضوا فيها، فبكوا موتاهم من ملوك، ورؤساء، وأقارب، وأحبة، محاكين المشارقة في المعاني المؤثرة والصور البالغة، والعبارات الموجعة، ثم إنهم لم يقفوا عند هذا بل تعدّوه إلى ابتداع نوع جديد من الرثاء، نالوا به السبق على شعراء المشارقة، إذ وجدناهم يطوّرون مفهومه، ويصبغون عليه من درر المشاعر وفيض العواطف، هذا النوع الجديد هو "رثاء الدول والممالك"، حيث استطاع الأندلسيّون أن يجعلوه اتجاها قائما بنفسه و"بابا من أبواب الشعر أبدعوا فيه القول وأجادوا فيه الصياغة")  (.

إن المتتبّع للشعر الأندلسي طوال الخلافة الأمويّة بالأندلس يلمح غيابا ملموسا لهذا النوع من الرثاء، إذ كانت الدولة حينها في أوج سلطانها، تقود الفتوحات وتقهر الأعداء، وتضيف إلى مجدها حصونا وقلاعا.

أمّا بعدما تناثر عقدها، وتقاسم الدولة الزعماء والأشياخ، فقد دبّ الضعف في أوصالها ولم تعد مهيبة الجانب، لذا اجتمعت عدّة حوافز لدى شعراء الأندلس ساهمت في نشأة هذا النوع من الرثاء، وكانت عاملا مهمّا في صياغة معانيه وتطوير مفهومه. تقوم هذه الحوافز بشكل عام على نواح ثلاثة: "ناحية تتصل بالعدو الصليبيّ المتحفّز للانقضاض على الأندلس، وأخرى تتصل بما آل إليه الحكم الإسلاميّ في الأندلس، وثالثة تتصل بطبيعة الأرض الأندلسيّة وطاقاتها الجماليّة غير المتناهية التي تدفع ذوي الإحساس من الشعراء إلى التعلق المشبوب بها")  (.
فما كاد يحلّ القرن الخامس الهجريّ حتى انقلبت معه الموازين على مستويات مختلفة من تفكك اجتماعي، وضغط اقتصادي، وانهيار سياسي لدولة الإسلام. فالدولة أصبحت دولا والحاكم أصبح حكّاما، والمظاهر الخارجيّة لم تعد تغري أحدا، فتفرقت كلمتهم وزاد إسرافهم على أنفسهم وصرفهم عن الجهاد بمحاربة بعضهم البعض. من هنا أخذ العدو يتجرأ عليهم ويباغتهم بالإغارة من وقت لآخر فيفوز بالمدن والحصون. وهكذا، كلما مرّ الزمـن، "ازداد المسلمـون ضعفا وازداد الأعـداء تبعـا لذلك قـوّة وجرأة عليهـم")  (.
وعلى إثر المصاب الجلل الذي حلّ بالأندلس، نجد الشعراء في طليعة المدافعين عن الوطن والدّين، فجادت قريحتهم بقصائد طوال تنبئ عن حسرة وألم شديدين، فجاءت مراثيهم لمدنهم وأوطانهم أثرا صادقا من آثار الانفعالات "التي قرّت في النفوس فآلمتها، وحزّت في القلوب فألهبتها، فجرّت على الألسن أنّات وسالت بها الأقلام عبرات")  (. فكانوا أقدر الناس على رثاء الممالك الزائلة والأقطار الضائعة والدول الآفلة، و"ندب الملوك التي تنتزع عروشها وتخلع عن سلطانها لم يدركهم في ذلك سابق ولم يلحقهم فيها تابع")  (.

ومن هذا المنطلق ارتأيت أن أسجّل وقفات مع بعض أعلام الشعراء في تصويرهم للنكبات التي لحقت بمدنهم وما صاحبها من تشرّد وضياع وانتهاك للحرمات، حيث أعلنت حرب الاسترداد، واتّحدت كلمة الأعداء متّخذة شكلا رسميا لمفهوم الحرب الصليبيّة، التي تعتزم قطع دابر الإسلام والمسلمين في الأندلس. فبدأت الغارات، وكانوا كلما دخلوا مدينة إسلاميّة إما أن يتركوها صحراء جرداء قد محيت آثارها الإسلامية كما فعلوا "بطليطلة"، أو يسكنوا فيها رعاياهم النصارى ويشيّدوا الكنائس "كما فعلوا في قرطبة"، أو يأخذوا أهل هذه المدينة بالمعاملة القاسية التي تصل إلى حدّ الإحراق والقتل كما فعل السيد الكومبيطور مع "أهالي بلنسيّة") (.

وهكذا بدأت الحصون في شبه الجزيرة تتساقط في يد العدو "تساقط أوراق الخريف") (، فأصبح مصير الأندلس في خطر، والملوك منهمكون في مفاسدهم منشغلون بالكيد لبعضهم البعض.
في ظلّ هذه الظروف، ما موقف الشعراء خاصة ؟ لاسيّما وأنهم "أهل عاطفة رقيقة، ووجدان حيّ يؤثّر فيهم المصاب وتحزنهم النازلة")  ( كيف وهم يرون مدنا تسقط، ومعالم تمحى، وأهالي تطرد، ونساء تغتصب وبنات تسبى؟؟

مما لا شك فيه أن الشعر لسان حال الأمة، وقد حظي الشعراء في الأندلس بالمنزلة الرفيعة حتى عدّوا من الأرستقراطيّة الحاكمة، لذلك كلّما تعرضت الدولة إلى مصاب علت أصواتهم إمّا بالتحذير أو الاستغاثة أو الاستنفار لجهاد العدوّ، مرسلين أشعارهم من صدور مكلومة، وأفئدة موجعة، ونفوس باكية، وقلوب ملتاعة، "شفّها الحزن وصدّعها الهمّ واستولت عليها الحسرة وأصابها الأسى")  (. فاضطلعوا بذلك إلى "مهمّة المثقفين الشرفاء الذين يلقون على كواهلهم مسؤوليات تاريخيّة جسام)  ( من هنا أضحى رثاء المدن والدول فنّا شعريّا قائما بذاته في أدبهم")  ( ويكفينا في ذلك الأبيات الشعرية التي قالها أبو عبد الله محمد بن الفازازي، والتي تعتبر من أجود ما قيل في تصوير حال الأمة، وهي تنهار أمام العدو:
 الرُّومُ تَضْرِبُ ِفي البِلاَدِ وَتَغْنَمُ        وَالجُورُ يَأْخُذُ مَا بَقَى وَالمَغْرَمُ
 وَالمَالُ يـُورَدُ كُلُّهُ قِشْتَالَـةً         وَالجُنْدُ تَسْقُطُ وَالرَّعِيَّةُ تَسْلَمُ
 وَذَوُوا التَعَيُّنِ لَيْسَ فِيهِم مُسْلِمٌ       إِلاَّ مُعِينٌ ِفي الفَسَادِ مُسَلِّـمُ
 أَسَفِي عَلَى تِلْكَ البِلاَدِ وَأَهْلِهَا        اللهُ يَلطُفُ بِالجَمِيعِ وَيَرْحَمُ)  (

أولا: رثاء الدول
1- سقوط بربشتر:

تعتبر واقعة بربشتر سنة 456 هـ "أول حملة صليبية على الأندلس الإسلامية")  (، وذلك على إثر الحملات الصليبية المبكرة التي كانت تستهدف كبريات المدن الأندلسية. كما أنها "أوّل هزيمة تلقاها المسلمون بعد أن تمزقت وحدتهم في الأندلس")  (، لهذا كانت دافعا قويّا، ارتفعت معه أصوات الشعراء والكتّاب مصورين فداحة الخطب الذي ألمّ بالمسلمين، وهذا الفقيه الزاهد عبد الله بن فرج اليحصبي المكنّى بابن العسّال يصوّر مأساة بربشتر فيقول:
وَلَقَدْ رَمَانَا المُشْرِكُونَ بِأَسْهُمٍ      لمَ تُخْطِ لَكِنْ شَأْنُهَا الإِصْمَاءُ
هَتَكُوا ِبخَيْلِهِمُ قُصُورَ حَرِيمِهَا       لمَ يَبْقَ لاَ جَبَلٌ وَلاَ بَـطْحَاءُ
جَاسُوا خِلاَلَ دِيَارِهِم فَلَهُمْ بهَا     ِفي كُلِّ يَـوْمٍ غَارَة شَعْـوَاءُ
بَاتَتْ قُلُوبُ المُسْلِمِينَ بِرُعْبِهِمْ      فَحُمَاتُنَا ِفي حَرْبِهِم جُبَنَاءُ)  (
وفيها تصوير لقسوة الأعداء في حملتهم على بربشتر، وتكالبهم من أجل الفتك بالمسلمين الذين لم يحرّكوا ساكنا لنجدتها، فهم بذلك جبناء يخافون ملاقاة عدوّهم.
ثم ينتقل بنا إلى مشاهد أخرى ليبين من خلالها أن العدولم يكتف بتحقيق النصر أو القتل أو السبي، إنما تجاوز كلّ ذلك إلى ارتكاب جرائم أخلاقية يندى لها ضمير الإنسانية، كانتهاك الحرمات لذا حاول ابن العسّال مخاطبة الوازع الديني وإثارة حمية العربي الأصيل الذي يصون كرامته ويذوذ عنها، فأين الحميّة؟ وقد انتهكت أعراض النساء، ونكّل بالأطفال والشيوخ شرّ تنكيل رامين بالمبادئ والقيم عرض الحائط:
كَمْ مَوْضِعٍ غَنِمُوهُ لم يُرْحَمْ بِهِ       طِفْلٌ وَلاَ شَيْخٌ وَلاَ عَـذْرَاءُ
وَلَكَمْ رَضِيعٍ فَرَّقُوا مِنْ أُمِّـهِ        فَلَـهُ إِلَيْهَا ضَجَّـةٌ وَبُغَـاءُ
وَلَرُبَّ مَوْلُودٍ أَبُوهُ مُـجَدَّلٌ         فَوْقَ التُّرَابِ وَفَرْشُهُ البَيْـدَاءُ
وَمَصُونَةٍ ِفي خِدْرِهَا مَحْجُوبَةٍ        قَدْ أَبْرَزُوهَا مَالهَاَ اسْتِخْفَاءُ
وَعَزِيزَ قَوْمٍِ صَارَ ِفي أَيْدِيهِمْ          فَعَلَيْهِ بَعْدَ العزّة استخْذاءُ)  (
كما يصوّر ابن بسام هذه الفاجعة بقوله : "... عداة الله كانوا يومئذ يتولّعون بهتك حرم أسراهم وبناتهم بحضرتهم وعلى أعينهم إبلاغا في تعذيب قلوبهم يغشون الثيب، ويفتضون البكر، وزوج تلك وأبو هذه موثق بقيد أسراه ناظر إلى سحنة عينه، فعينه تدمع ونفسه تقطّع." )  (
بعدها يقرّ ابن العسّال أن ما أصاب المسلمين في هذه المحنة، ما هو إلا نتيجة طبيعية للفرقة والخلاف وتفاقم الذنوب، فهم يشربون الخمر مجاهرة، ويمارسون الرذيلة دون احتشام فحقّ عليهم العذاب:
   لَوْلاَ ذُنُـوبُ المُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ     رَكِبُوا الكَبَائِرَ مَا لهَنَّ خَفَـاءُ
  مَا كَانَ يُنْصرُ لِلنَّصَارَى فَارِسٌ      أَبَدًا عَلَيْهِمْ فَالذُّنُوبُ الـدَّاءُ
  فَشِرَارُهُمْ لاَ يَخْتَفُونَ بِشَرِّهِمْ    وَصَلاَحُ مُنْتَحِلِي الصَّلاَحِ رِيَاءُ)  (
وكأنه يطلب من الحكّام والمحكومين على السواء التمسك بالدين، والرجّوع إلى القيم والأخلاق التي يعلو بها الإنسان، فيلقى نصر الله وتأييده. وفي المضمار نفسه يقرّ ابن عبد البرّ في رسالة له على لسان أهل بربشتر أن كثرة الذنوب حاجبة عن النصر: "... لولا فرط الذنوب لما كان لريحهم علينا من هبوب ..." ) (
ثمّ يضرب على نغمة الوحدة والائتلاف كدعوة صريحة منه إلى وجوبها: "... ولو كان شملنا منتظما، وشعبنا ملتئما، وكنا كالجوارح في الجسد تشابكا ...".
وإذا سلّمنا بوجهة نظر ابن العسال وابن عبد البر في اعتبار الذنوب إحدى الأسباب التي ألحقت بالمسلمين الهزيمة، فإنّه يجدر بي أن ألفت الانتباه إلى وجود عوامل سياسية، وأخرى اجتماعية كان لها الأثر البالغ في انهيار الكيان الإسلامي بالأندلس، وبالتالي ضعف المسلمين وانهزامهم أمام العدو النصراني.
وعلى إثر هذه الحادثة نجد من الشعراء من وجّه خطابه مباشرة إلى ملوك الأندلس يشعرهم بالخطر المحدق بهم. كالهوزني الذي خاطب المعتضد مرارا يحثّه على الجهاد منبّها إياه بخطورة الوضع:
أَعَبَّادُ حَلَّ الرَّزْءُ وَالقَوْمُ هُجَّـعُ     عَلَى حَـالَةٍ من  مثلُها  يُتَـوَقََّـعُ
فَلَقِّ كِتَاِبي مِنْ فَرَاغِكَ سَـاعَةً      وَإِنْ طاَلَ فَالمَوْصُوفُ للطُّولِ موضعُ)  (
وهكذا صورت لنا هذه الأشعار والمراسلات الأثر العميق الذي تركته نكبة بربشتر في أوساط المجتمع الأندلسي، ولعلّها أوّل محنة حركت المشاعر وللأسف لم تجد نصيرا.