كيف يُكسبك القرآن "عقلية النجاح" ؟

في الواقع، العقلية هي المحدِّد لطاقتنا (إيجابية أم سلبية) والإجراءات التي نتَّخذها والكيفية التي نتّخذ بها القرارات، ولذلك جاء الخِطاب القرآني موجَّهًا للعقل، بعد أن فشلت المعجزات الحسية في تغيير عقلية البشر، فعصا موسى التي صارت ثعبانًا والتي فلقت البحر، أبهرَت قوم موسى ولكن لحظيًا فقط، فبمجرّد مرور تلك اللَّحظات زال الانبهار، وعاد أغلب القوم إلى ما كانُوا عليه، ونفس الشَّيء بالنِّسبة للنبي عيسى عليه السلام، فقد أبهرَت معجزاته قومه، ثمّ ما لبثوا أن تآمروا عليه ليصلِبوه! ومن قبله سليمان عليه السلام، فبالرَّغم من أنّه أوتي من المُلك ما لم يؤتَ أحدٌ من العالمين، إلّا أنّ ذلك لم يمنع قومه من اتهامه بالسّحر، وهكذا أغلَب الأنبياء.

القرآن



من الحسِّي إلى العقلِي

لذلك، كان القرآن المعجزة الخالدة لسيد الأنبياء محمد صلَّى الله عليه وسلم، فقد جاء بمعجزةٍ لا تُشابهُها ولا تُناظرها أيّ معجزةٍ حسية، فهو يستفزُّ العقل للتفكير، للخُروج من قوقعته الفكرية، للخُروج من منطقة الراحة، ليشكِّل بذلك صدمةً عنيفة دائمَة، تنبُع من الدّاخل العميق، وليست لحظية كسائِر المعجزات الحسّية، تُنتجُ أفرادًا ربانيين، تلامس أرواحهم عنان السَّماء، لا يبدو أنّهم ينتمُون لطِينة البشر، أمثال عمر بن الخطاب، وتلك هي الحالة الصَّحيحة التي من أجلها خُلق الإِنسان، والتي من أجلها سجد الملائكة لآدم عليه السّلام، فالتوصُّل إلى معرفة الله حقَّ المعرفة بواسِطة العقل بالتخيير وليس التَّسيير، هو مَقصد الخلق، وذلك هو دور القرآن.

تأمَّل في هذه الآيات من سورة تبارك التي تستفزُّ عقل الإنسان فعلًا: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ). تستفزه بسؤال: هل ترى في السَّماء من خَلل؟ ثم ما أن يُرفع البصرُ إلى السّماء حتى يرجع صاغرًا ذليلًا، لم يرَ خللًا ولا تفاوتًا.

ثم تأمّل في الآيات بعدها: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ ? إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ)، (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ)، (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ). إنّها تستفزُّ عقل الإنسان فعلًا للتأمُّل والبحث، وهناك الكثير من هذه الأمثلة في القرآن.

لهذا السَّبب، يعمل القرآن على تغيير العقلية من «سأؤمن به عندما أراه»، لتُصبح «سأراه عندما أؤمن به». وذلك هو اليقين.

القرآن وبناء «العقلية الإيجابية»

كيف تعرفُ عقليتك؟ يُمكنك أن تعرفها من خلال الطّريقة التي تتحدَّث بها إلى نفسك بشكلٍ سرّي. إذا كانت اللغة السّلبية هي التي تستخدُمها عند التحدُّث عن أهدافك وتطلُّعاتك، فهذا يعني أنّ لديك عقلية ثابتة.

العقلية السِّلبية تجلب معها عددًا كبيرًا من المُعتقدات المحدُودة. إنّها تخلُق عقلية ثابتة – عقلية لا يمكن أن تتعدَّى حدودَها الخاصَّة. إنَّ عقلية النُّمو ترى هذه القيود وتتعدَّاها – فهي تجد طرقًا للتغلُّب على العقبَات وتعتقد أنَّ ذلك سيؤدِّي إلى النَّجاح. عندما تفكِّر في هدفك، قد تفكر بعقلية ثابتة «ماذا لو فشلت؟» ثم لن تتحرّك. ولكن عقلية النُّمو ستنظُر إلى الهدف نفسه وتعتقد أن «الفشل ربما يحدث، ولكن هذا لا يعني أنَّني لن أكون ناجحًا». هل لاحظتَ الفرق!

والسّؤال هنا: كيف يُكسبُك القرآن عقلية نامِية إيجابية؟

كما يقول الدكتور أحمد خيري العمري: «لعلَّ أوضح أثرٍ أحدثه الخطاب القرآني على مُستوى الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في الجزيرة العربية هو ما يُمكن تلخيصه بكلمةٍ واحدة هي الإيجابية».

فقد تحوَّل العرب تحولًا كبيرًا من أمَّة أمِيّة مُستسلمة لواقِع دوني وسلبي، دون كيانٍ واضح المعالم، ومن قبائل مشتَّتة تتناحر لأتفه الأسباب إلى إمبراطورية معالمها من أقصى الشَّرق إلى أقصى الغرب في مدّة لا تتجاوز العقود الثلاثة. وهذا كلُّه بفضل القرآن وهو ما يفسِّر العقلية التي اكتسبها الصَّحابة رضوان الله عليهم، فهي عقلية ليس لها علاقة بكثرة العبادات المجرَّدة أو الرَّهبانية الانعزالية. إنَّما كانت عقليةً إيجابية تجعلُ من صاحبها خارق القوى، واسع التفكير، واضحَ الرؤية، يعيشُ في بُعدٍ آخر.

وهو ما يفسِّر أيضًا المعجزة التي حصلت: أن يتحوَّل العرب من مجموعةٍ من أفرادٍ مستسلمين للكهانة وصحراء الجدب وأوثان التَّمر إلى جيلٍ آخر، جيلٍ فاعل ومتفاعل مع العالم المُحيط به، ابتدأ بنفسه فغيرها، وغير العالم من حوله، كل ذلك ضمن إطار جديدٍ من الإيجابية.

نعم، إنَّها الإيجابية التي زَرعها الخِطاب القرآني في نُفوس وعُقول الجيل الأول (الذي تربى على يد الرَّسول محمد صلى الله عليه وسلم)، فكانت الانطلاقة، والمُعجزة.

القضاء على السلبية

عادةً، يجد الكثير من النّاس أنَّ قِصص النّجاح من أروع الأساليب التحفيزية، وكذلك بالنّسبة للقَصَص القرآني.
فمن أروع ما جاء في التحفيز والإيجابية سُورة كاملة وهي سُورة يوسف فرغم كلِّ الظروف الصَّعبة التي أحاطت به؛ لم ييأس ولم يفقِد الأمل. فهي قصَّة نجاحٍ في الدنيا، حين استطاع بفضل الله أن يُصبح عزيز مصر. وفي الآخرة حين تصدَّى لامرأة العزيز ورفض الفاحشة ونجَح.

كما أنّ سُورة يوسف هي أكثر السور التي تحدَّثت عن اليأس. قال تعالى (فلمَّا استَيأسوا منهُ خَلَصوا نَجِيًّا) 80، وقال سبحانه (ولا تيأسوا مِن رَوحِ الله، إنَّهُ لا ييأسُ مِن رَوحِ الله إلا القومُ الكافِرون) 87، وقال سبحانه (إنَّهُ مَن يتَّقِ ويَصبر فإنَّ اللهَ لا يُضيعُ أجرَ المُحسِنين) 90 وقال عز وجل (حتى إذا استيأس الرسلُ وظَنُّوا أنَّهُم قد كُذِبوا جاءَهُم نَصرُنا) 110. وكأنها تقول لك أيُّها المؤمن: إنَّ اللهَ قادر فلِمَ اليأس!

فقد تولى الله أمر يوسف عليه السلام؛ فأحوَج القافلة في الصَّحراء للماء ليُخرجه من البئر، ثمَّ أحوج عزيز مصر للأولاد ليتبناه، ثم أحوج الملك لتفسير الرؤيا ليخرجه من السجن، ثم أحوج مصر كلها للطعام ليصبح عزيز مصر.

وبناءً على ذلك، فإنّ القرآن يعملُ بشكلٍ أساسي على الإيمان الدَّاخلي بإمكانية التغيير، الإيمان بجدوى العمل، إيقاد جذوة الأمل المشتعلة في الأعماق، حتى ولو ببصِيص شمعةٍ في البداية.

خلقُ رُؤية

الحياة بمعايير قرآنية ليست أن تكون وظائفك البيولوجية على قيد الحياة، بل أن توظِّف نفسك فيما خلقت من أجله، أن تعمل على تشكيل العالم بشكل أفضل دومًا، أن تثمر، أن تنتج، أن تكون جزءًا من أرض أفضل، ولو بأن تكون سمادًا عضويًا لحصاد قادم.
(أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) 122 – الأنعام.

واليوم، نُواجه نحن المسلمين، واقعًا مُظلمًا ومستقبلًا حالكًا. فنحن نعيشُ في ظلِّ نظام عالمي يستغلنا ويسحقنا ويهمِّشنا على كافة المستويات، نظامٌ قد يتشدَّق بأجمل الشِّعارات، ويمارس أشدّ أنواع الظّلم، يستغل مواردنا بأبخس الأثمان، ويستغل بطالتنا ليحوِّل عمالتنا البشرية إلى رقيقٍ رخيص مهدَّد في أيّ وقتٍ بالطَّرد والموت جوعًا، وفوق ذلك كلّه، يمسخ هويتنا الحضارية، الدينية، العقائدية… ويحولنا إلى تابع استهلاكي لحضارة الغرب.

وسط ذلك كلّه يسألُ الفرد المُسلم نفسه: من يُمكنه تغيير هذا الوَضع؟ ماذا بوِسعي أن أفعل؟ إنه يجد نفسه محاصرًا تمامًا، هاجسُه الديني يقول شيئًا، لكن حياته كلها تقول أشياء أخرى مضادَّة، فماذا بوسعه أن يفعل حقًّا؟

يقول الدكتور أحمد خيري العمري: «إنه اليأس القاتل، والركض خلف حضارة الغرب، وثقافة الاستهلاك والتمدُّن، التقوقُع على الذّات، الاقتصار على الشَّعائر والعبادات، إنه السِّلبية العقيمة التي تصيب حتى أصحاب الشَّهادات والأفكار، وهو الذي يجعل الفرد متقوقعًا على ذاته منفصِلًا عن محاولة التغيير».

يعمل القرآن هنا بإخراج صاحبه برؤيةٍ مختلفة ومشروعٍ مغاير ونفسية مستعدَّة للمواجهة، وبثمرة الأمل، وشطب كلمة اليأس، واقتلاع جذُور السلبية، واقتلاع جذُور الكسل والتواكل، غرس جذور لقيمٍ بديلة، قيم الإيجابية والثَّقة التي تبدأ من الإيمان أنّ بإمكان رجلٍ واحد فعل الكثير: أن يدعو 100 ألف أو يزيدُون. (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى? مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) 147 – الصافات.


ملاحظة: تمّ نشر هذا المقال لأول مرة هنــأ