لماذا تُخامرك الريبة ويخالجك القلق؟ عش في حدود يومك فذاك أجدر بك !

من أخطاء الإنسان أن ينوء في حاضره بأعباء مستقبله الطويل.
والمرء حين يأمل ينطلق تفكيره في خط لا نهاية له، وما أسرع الوساوس والأوهام إلى اعتراض هذا التفكير المرسل، ثم إلى تحويله همومًا جاثمة، وهواجس مقبضة.

لماذا تُخامرك الريبة ويخالجك القلق

لماذا تُخامرك الريبة ويخالجك القلق؟! عش في حدود يومك فذاك أجدر بك، وأصلح لك.
ولقد ساق ديل كارنيجي عددًا من التجارب التي خاضها رجالٌ ناجحون، رجال لم يتعلقوا بالغد المرتقب، بل انغمسوا إلى الأذقان في حاضرهم وحده، يواجهون مطالبه، ويعالجون مشكلاته، فأمنوا بهذا المسلك الراشد يومهم وغدهم جميعًا.

 ثم أهدوا لنا خلاصات تجاربهم في هذه الكلمات: " ليس لنا أن نتطلع إلى هدفٍ يلوح لنا باهتًا من بعد، وإنما علينا أن ننجز ما بين أيدينا من عمل واضح بين ". وهي نصيحة للأديب الإنكليزي توماس كارليل .

ويزيد عليها دكتور أوسلر فيأمر طلبته في جامعة ييل أن يبدؤوا يومهم بالدعاء المأثور عن السيد المسيح: "خبزنا كفافنا أعطنا اليوم"وذكرهم بأن هذا الدعاء كان من أجل خبز اليوم فحسب.

إنه لم يحزن على الخبز الرديء الذي حصل عليه أمس، ولم يصح: يا إلهي! لقد عم الجفاف، ونخشى ألا نجد القوت في الخريف القادم!!. أو ترى كيف أطعم نفسي وأولادي لو فقدت وظيفتي؟!

إنه لم يرتبك مقدمًا لهذه الدواهي المتوقعة، إنه يطلب خبز اليوم وحده، لأن خُبز اليوم وحده هو الذي يمكنك أن تأكله في ذلك اليوم.

والعيش في حدود اليوم – وفق هذه الوصايا - يتسق مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "من أصبح آمنًا في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".

إنّك تملك العالم كله يوم تجمع هذه العناصر كلها في يديك فاحذر أن تحقِرها.


إن الأمان والعافية وكفاية يوم واحد قوى تتيح للعقل النير أن يفكر في هدوء واستقامة تفكيرًا قد يغير به مجرى التاريخ كلّه.

إن هذه النّعم الميسرة ضمان كبير لصاحبها كي يقطع من الزمن فترة كاملة الإنتاج، مطردة السير، مراحة من العوائق والمثبطات.

والحق أن استعجال الضوائق التي لم يحن موعدها حمق كبير، وغالبًا ما يكون ذلك تجسيدًا لأوهام خلقها التشاؤم، ولو كان المرء مصيبًا فيما يتوقع، فإن إفساد الحاضر بشؤون المستقبل خطأ صرف.

والواجب أن يستفتح الإنسان يومه وكأن اليوم عالم مستقل بما يحويه من زمان ومكان.
كان الخليل إبراهيم عليه السلام إذا طلع عليه الصباح يدعو: "اللهم هذا خلق جديد فافتحه علي بطاعتك، واختمه لي بمغفرتك ورضوانك، وارزقني فيه حسنة تقبلها مني، وزكها وضعفها لي، وما عملت من سيئة فاغفرها لي، إنك غفور رحيم ودود كريم".

إن الاكتفاء الذاتي، وحسن استغلال ما في اليد، ونبذ الاتكال على المنى؛ هي نواة العظمة النفسية، وسر الانتصار على الظروف المعنتة.

والذين لا يشكُون الحِرمان –لأنهم أوتوا الكثير- قلّما ينتفعُون بما أوتوا إذا هم فقدوا الطاقة النفسية على استغلال ما معهم، والإفادة مما حولهم.

واسمع قول أبي حازم: إنما بيني وبين الملوك يوم واحد!! أما أمس فلا يجدون لذته، وأنا وهم من غد على وجل، وإنما هو اليوم، فما عسى أن يكون اليوم؟!.

هذا الفقير الصالح يتحدى الملوك! إن لذائذ الماضي تفنى مع أمس الذاهب، ما يستطيع أحد إمساك بعضها.


والغد في ضمير الغيب يستوي السّادة والصعاليك في ترقبه. فلم يبق إلا اليوم الذي يعيش العقلاء في حدوده وحدها.

وفي نطاق اليوم يتحول إلى ملك من يملك نفسه، ويبصر قصده. فما وجه الهوان؟ وما مكان التفاوت؟!.

على أن العيش في حدود اليوم لا يعني تجاهل المستقبل، أو ترك الإعداد له، فإن اهتمام المرء بغده وتفكيره فيه حصافة وعقل.

وهناك فارق بين الاهتمام بالمستقبل والاهتمام به، بين الاستعداد له والاستغراق فيه، بين التيقظ في استغلال اليوم الحاضر، وبين التوجُّس المربك المحيِّر مما قد يفد به الغد.

إن الدين في حظره للإسراف، وحبه للاقتصاد إنما يؤمن الإنسان على مستقبله، بالأخذ من صحته لمرضه، ومن شبابه لهرمه، ومن سلمه لحربه.

كان سفيان الثوري من كبار التابعين، وكانت له ثروة حسنة، وكان يشير إليها، ويقول لولده: لولا هذه لتمندل بنا هؤلاء –يقصد بني أمية-. يعني أن غناه حماه من حكام زمنه، فلم يحتج إلى مداهنتهم أو تملقهم.

والواقع أن ذلك مسلك يعين على بلوغه إحسان العيش في حدود اليوم، فإن الحاضر المكين أساس جيد لمستقبلٍ ناجح، ومن ثم يجب نبذ القلق. 

أتدري كيف يسرق عمر المرء منه؟ يذهل عن يومه في ارتقاب غده، ولا يزال كذلك حتى ينقضي أجله، ويده صفر من أي خير.

كتب (ستيفن ليكوك) يقول: "ما أعجب الحياة!!.
يقول الطفل: عندما أشب فأصبح غلامًا.
ويقول الغلام: عندما أترعرع فأصبح شابًا.
ويقول الشاب: عندما أتزوج.
فإذا تزوج قال: عندما أصبح رجلًا متفرغًا.

فإذا جاءته الشيخوخة تطلع إلى المرحلة التي قطعها من عمره، فإذا هي تلوح وكأن ريحًا باردة اكتسحتها اكتساحًا...

"إننا نتعلّم بعد فوات الأوان أن قيمة الحياة في أن نحياها، نحيا كل يوم منها وكل ساعة".
في هؤلاء الذين ضيعوا أعمارهم سدى، وتركوا الأيام تفلت من أيديهم لقى، يقول الله تعالى: ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ) [الروم: 55].
ويقول سبحانه: ( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ) [النازعات: 46].


المصدر : من كتاب جدد حياتك - محمد العزالي