بيتهوفن .. هل كان شخصاً مريضاً معذباً أم عبقرياً غريب الأطوار ؟!

ولد لودفيج فان بيتهوفن في 17 ديسمبر 1770، في بون، ألمانيا ، وكان من الأشخاص المبدعين حقا ، فكان يمتلك آفاقاً واسعة في تلحين السوناتا، والسيمفونية، والكونشرتو والرباعية، وكان يجعل من الغِناء متعة وذلك باختراعه طريقة جديدة، أما عن حياته الشخصية فتميزت بنضالٍ كبير ضد الصّمم، وأهمُّ أعماله قامَ بتأليفها خلال السنوات الـ 10 الأخيرة من حياته، وكان وقتها لا يسمع نهائياً.

بيتهوفن

ففي نفس الوقت الذي كان يؤلف فيه بيتهوفن هذه الأعمال العظيمة والخالدة، كان يكافح ايضا من أجل التواصل مع الحقيقة المروعة والرّهيبة، والتي كانت كل محاولاته يائسة في إخفائها، وهو انه فقد السمع وأصبح أصمّ ، فقد عاش عامين من البؤس وامتنع عن حضور أي وظائف اجتماعية، فقد وجد انه من المستحيل أن يقول للناس أنه أصم وهو من أعظم الملحِّنين والعازفين، وفقد الأمل على انه قادرٌ على التعامل مع عجزه هذا ، فكان فقدان السّمع عائق رهيب، فكان يعيش درجات شديدة من الاكتئاب مما أدى الى اختفائه.

ثم أعلن بيتهوفن فيما بعد عن سر اختفائه، وسبب بُعده عن كلِّ الاشخاص المحيطين به، فقال أنّه ليس بحاقدٍ أو كاره للبشر، وكان خطأً كبيراً منه أن يختفي بهذه الطريقة، وأنه يوجد سرٌّ بحياته جعله ينهي حياته بهذا الشكل، ولكنّه عَزم علي استكمال فنِّه مرةً أخرى، لأنه من الصعب بل من المستحيل أن يترُك العالم حتى يُخرِج ما بداخله.

كان والده الموسيقي "يوهان فان بيتهوفن"، ووالدته "ماريا ماغدالينا كيفريخكانت"، التي عُرف عنها الرُّقي والخلق الحسن ورهافة الحس.

حينما لاحظ عليه والده تعلُّقه بالموسيقى، وموهبته المبكرة، بدأ في تعليمه، بشكل شديد الصرامة، منذ أن كان في السادسة من عمره، إلى درجة أنه كان يوقظه من نومه ليتدرب، بل كان يضربه بقسوة، حتى إنّ بيتهوفن كثيراً ما كان يتدرب على العزف، ودموعه تغرق وجهه.

هل أثر ذلك في الرجل لبقية حياته؟ هذا ما يراه كثير من الباحثين والمؤرخين، فقد كان بيتهوفن شخصاً شديد الحساسية، حاد المزاج والطباع، وقيل إنه ربما عانى من اضطراب ثنائي القطب.

كان بيتهوفن ثائراً على القوانين المجتمعية الطبقية، يحتقر السلطات، ويعتزُّ بنفسه وبفنه، حتى قيل إنه كان يتوقف عن العزف في الحفلات، إذا لاحظ همهمات بين الحاضرين أو حديثاً فيما بينهم.

زاد من حدة طباعه وعصبية مزاجه معاناته الكبيرة مع آلام بطنه الحادة، ثم ضعف سمعه، الذي كان جحيماً حقيقياً لشخص يشتغل بالتأليف الموسيقي، فأذناه وأنامله هما رأس ماله.

قاده هذا الجحيم إلى التفكير في الانتحار عدة مرات، فكتب بنفسه في رسائله إلى أصدقائه، وفي وصيته التي أرسلها إلى أخويه، كارل ونيكولاس، خاصة أن حالة سمعه أخذت في التدهور حتى فقده تماماً في النهاية، فألف السيمفونية التاسعة دون أن يستمع لأي شيء فيها! وحين قدّمها على المسرح، كان الجمهور يقف مع كل مرة تصفيق، حتى يراهم بيتهوفن ويشعر بتحيتهم وإعجابهم.

لكن آلام بطنه، التي كانت بسبب داء في كبده، وسمعه الذي كان يخفت تدريجياً فلا يتمكن من الاستماع إلى ألحانه، لم تكن كل عذابات بيتهوفن؛ فالجسد المتألم حوى روحاً معذبة، وقلباً ذاق التعلق والفقد، بدءاً من فقد والدته، وهو في سن مبكرة، ليلحق بها والده بعد فترة، ثم فقده لأخيه كارل، بعد إصابته بداء السُّل، تلتها خيبات ومرارات عديدة، خلفها الحب والتعلق بنساء من طبقة أخرى، كانت من المحرمات على أمثاله.

Beethoven

قلب معلق.. لا يحظى بالوصل

كان بيتهوفن نجماً موهوباً، تتسابق الأسر النبيلة والبيوت الأرستقراطية لاستضافته، معلماً لبناتهم أو ضيفاً في الحفلات الفخمة.

وكان شديد الاعتزازِ بنفسه، يعلم أنه لا ينتمي إلى هذه الطبقة، وأنه ابن رجل وامرأة من العوام، لكن القوانين الطبقية للمجتمع لم تكن تسري عليه، فيدخل من أبواب القصور الرئيسية، مثل أي ضيف من النُّبلاء، ولا ينحنِي لأحد، ولا يتوقف عن نقد ما يراه خطأً، ويُهاجم الكنيسة والحزب الحاكم والدولة والسلطات بصوتٍ مرتفع أمام الجميع.

ويروي بعض المؤرخين أنه كان قد ألف السيمفونية الثالثة، وسمَّاها باسم نابليون الأول، ابن الثورة الفرنسية، وقرَّر إهداءها له.

وخلال ذلك، جاءه تلميذه فرديناند ريس، ليخبره بأنّ نابليون أعلن نفسه إمبراطوراً على فرنسا، فغضب بيتهوفن بشدة، وقام إلى السيمفونية ومزقها، واتهم نابليون بأنه مثل غيره، يسعى لمجده الشخصي، ولبناء سلطان له فوق حقوقِ الناس.

لاحقاً خرجت السيمفونية الثالثة، لكن باسم "سيمفونية البطولة- في ذكرى رجل عظيم". إلا أنّ كل هذا لم يكن يعني أن تذيب النخبة المخملية الفوارق، فتسمح له بالحب والزواج من بناتها!

هذا ما عرفه الناس بعد وفاة بيتهوفن في الـ26 من مارس/آذار عام 1827، حين عثروا على رسائل في خزانته، تحوي عصارة قلبه وتحكي عذاباته. كانت كل رسائله معنونة بـ"إلى الحبيبة الخالدة"، ويبدو أنها ظلت حبيسة أدراجه، ولم يرسلها أبداً، فظن بعض الباحثين أنها إلى امرأة خيالية، مثالية، ملهمة لألحانه وموسيقاه، لكنها ليست موجودة في الواقع.

الحبيبة الخالدة

سيخبرك المؤرخون أنها ربما كانت الكونتيسة "جولييتا جيجاردي"، الشابة الصغيرة، التي كان بيتهوفن يعلِّمها الموسيقى، وهي في عمر الـ16.

كانت شابة يافعة جميلة، ممتلئة بالدَّلال والأنوثة، ويبدو أنها عشقت عبقرية بيتهوفن الفنية مثل حال غيرها، لكن مَن بيتهوفن؟ شخصٌ من العامة، لا مال ولا لقب عائلة ولا منصباً مرموقاً، بل هو شخص حاد المزاج، وله أحوال عجيبة، فكان من البديهي أن يتوقع المؤرخون عدم استمرار هذه العلاقة.

تحدث بيتهوفن عن حبه لجولييتا في رسالة أرسلها لصديقه فرانس واجلر، ويُقال إنه ربما أهداها سوناتا بيانو رقم 14، المعروفة بـ"سوناتا ضوء القمر".

أم هل كانت چوزفين برانسفيك، كبرى بنات الكونتيسة آنا برانسفيك؟ التي كان بيتهوفن يعطيها دروساً في البيانو، ويبدو أن قلبه تعلَّق بها، ويُرجح كثير من كتاب السير والمؤرخين أن چوزفين هي الحبيبة الخالدة، حتى بعد أن زوجتها والدتها الكونتيسة آنا من الكونت فون ديم عام 1800، ظل بيتهوفن يزورها بحجة تعليمها الموسيقى، إلى أن توفي زوجها عام 1804، لتعود علاقتهما وتتعمق من جديد، ويقول المؤرخون إن بيتهوفن كتب من 1804 وحتى 1807 أكثر من 15 رسالة حب.

لكن چوزفين عادت وتزوجت مرة أخرى عام 1810 من البارون فون ستاكلبرج، ربما لأنها خشيت أن تُسحب منها حضانة أطفالها إذا تزوجت رجلاً من عامة الشعب، وربما لأن بيتهوفن لم يكن جاداً في الزواج منها أيضاً.

لكن على أية حال، استمرت علاقتهما لسنوات طويلة، رشحتها في نظر المؤرخين لتكون بطلته وحبيبته الخالدة، دون غيرها.

وفي عام 1812، تعرَّف بيتهوفن إلى تيريز مالفاتي، ويُقال إنها ابنة أحد أطبائه، كانت في الثامنة عشرة وقتها، ويرجح المؤرخون أنه ربما نشأت بينهما علاقة ما، وأنه أهداها مقطوعته "من أجل إليزا"، وهناك احتمال أنه تقدم لخطبتها، لكن طلبه قوبل بالرفض من قبل عائلتها، فقد كانت في الـ18، وكان هو في الـ39 من عمره.

لكن قصة تيريز محل خلاف بين المؤرخين، مثلها مثل قصته مع "تيريز برانس?يك" شقيقة چوزفين، التي يُقال إنه عُثر على مقطوعة "من أجل إليزا" بحوزتها، بعد وفاة بيتهوفن، ما يجعل بعض المؤرخين يعتقدون أنها كانت المعنية وليست مالفاتي!

وقد تكون أنتوني برنتانو، ابنة الدبلوماسي النمساوي يوهان ملكيور، أو الكونتيسة آن ماري ايردودي، التي كانت تقيم كثيراً من الحفلات في منزلها، فكان بيتهوفن يعزف دائماً فيها، ويُقال إن علاقتهما توطدت خلال ذلك، لا أحد يعرف على وجه الدقة.

ويذهب بعضهم إلى أن كل هذه العلاقات نشأت بالفعل، وأن بيتهوفن كان رجلاً سريع الوقوع في الحب، ولأنه كان محاطاً دائماً بنساء الطبقة المخملية؛ كان يرتد حبه دائماً إلى قلبه بسبب الفروق الطبقية.

فهل كان بيتهوفن شخصاً مريضاً معذباً، عذبه الحب وخيباته المتتالية؟ أم رجلاً غريب الأطوار، متقلب المزاج، تحتل الموسيقى المرتبة الأولى في حياته، ولا تسمح بوجود شريكة أخرى تزاحمها في قلبه؟ فيذهب قلبه خلف هذه وتلك، لتُترجم مشاعره إلى روائع موسيقية تُخلد وحدها دون الحبيبة!

المصادر: universemagic beethoven / lvbeethoven / biography