ماذا تعرف عن "الدبابات الفكرية"؟ .. الوجه الآخر لقوة الدول الغربية !

إنَّ كل مسعى إلى إنتاج هيمنة ذات طموح إمبراطوري لا يتسنَّى له النجاح إلا بتوفر شروط وركائز تحققه وتُديمه، ومن ذلك نذكر: الرؤية الاستراتيجية ، الدعم المالي، القوة العسكرية الضاربة التي تستطيع أن تتدخَّل في أكثر من مكان في وقت واحد .

الدبابات الفكرية

لكن هذه الأسس لا يمكنها في تقديرنا أن تضمن نفوذا سيادياً من هذا القبيل على المستوى العالمي دون دورٍ يبدو لنا أساسيا وإن لم نر تواترا يشيد به في الدراسات والإعلام .. إننا نعني  ذاك العمل الجبار الذي تقوم به مراكز البحث المسماة "Think Tanks"..

ما هي الدبابات الفكرية "Think Tanks" ؟

تلعب "الثينك تانكس" دوراً بارزاً في صياغة السياسة الخارجية للدول المتقدمة بشكل عام وللولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص.

وقد كان لهذه المراكز دوراً أساسياً في كثير من قضايا السياسة الخارجية الأمريكية في عموم الشؤون الدولية بصفة عامة، وتجاه منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.

لقد قامت هذه المؤسسات (التي تعتبر بمثابة مراكز بحثية مستقلة ) بصياغة التعاطي الأمريكي مع العالم لفترة تقارب مئة عام ولكن ولكون مؤسسات الفكر والرأي تقوم بمعظم وظائفها بمعزل عن أضواء وسائل الإعلام ، فهذا يجعلها تحظى باهتمام يقل عن المؤسسات الأخرى للسياسة الخارجية الأمريكية ، مثل التنافس بين جماعات المصالح والمناورات بين الأحزاب السياسية والتنافس بين فروع الحكومة المخلفة.

وعلى الرغم من هذا الابتعاد النسبي عن الأضواء فإن مؤسسات الفكر والراي تبى حقيقة تؤثر بشكل ديناميكي تفاعلي على صانعي السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية ومن خلال عدة جوانب وبوسائل مختلفة. 

"دبابات الفكر".. تحالف بين الفكر والسلاح

 "دبابات الفكر".. هذه التسمية التي تمزج الفكر بفلسفة القوة لم تأتِ مصادفة، إنها تعبر عن التحالف بين الفكر والسلاح في الولايات المتحدة. هذه المؤسسات الاستراتيجية وبيوت الخبرة السياسية تمثل قوة ضاغطة وفاعلة تعمل بنشاط قل مثيله في العالم، وهي تتموّل وتتمتع بميزانيات ضخمة من كبريات الشركات الأميركية المعولمة.

من هذه الشركات العملاقة الممولة لمركز الدراسات والأبحاث الاستراتيجية والتي يقارب إنتاجها ما يساوي 25 في المئة من الإنتاج العالمي نذكر على سبيل المثال أن خمسة منها (جنرال موتورز – ووال مارت وإكسون موبيل وفورد وديملركرايسلر) يتجاوز ناتجها القومي 182 دولة في العالم.

هذه الشركات وغيرها هي طليعة القوى الصانعة للعولمة، وهي الأسخى تبرعاً "وتمويلاً لمرشحي الرئاسة الأميركية ولمراكز الأبحاث وبيوت الخبرة السياسية والاستراتيجية مثل مؤسسة التراث (أنشئت منذ 30 سنة) ومركز مانهاتن للدراسات (انشىء من 25 سنة) ومؤسسة المشروع الأميركي (انشىء منذ ستين سنة) ومركز هوفر (انشىء من 25 سنة) ومؤسسة المشاريع الأميركية AEI ومركز سياسة الأمن والمؤسسة اليهودية لشؤون الأمن القومي JINSA..

يمكن القول أن هذه المؤسسات هي صانعة رؤساء الجمهوريات وواضعة البرامج والسياسات لكل الإدارات المتعاقبة، وخلافها هو تعبير مباشر عن خلاف المصالح التي يعبر كل منها عنه، تبعاً للجهات الممولة. هذه المؤسسات هي ابنة التحالف الرأسمالي الصناعي – العسكري. 

عام 1961 ألقى داويت ايزنهاور خطاب الوداع بصفته رئيسا للولايات المتحدة الأميركية، كان في هذا الخطاب قنبلة سياسية بكل معنى الكلمة، إذ احتوى تحذيراً للمجتمع الأميركي من وحش كاسر ينمو في أحشائه.

يقول بالحرف: "أن مواقع القرار الأميركي يجب حمايتها من هذا التحالف العسكري - الصناعي الرأسمالي وإلا ستكون العواقب كارثية، لأننا بذلك نضع سلطة القرار في أيدٍ غير مسئولة، لأنها غير مفوضة، وبالتالي لا يصح أن تؤتمن عليه".

ويتابع محذراً: "أود أن ألفت النظر إلى أنه إذا وقع القرار الأميركي رهينة لمثل هذا التحالف الصناعي – العسكري وأطرافه، فإن الخطر سوف يصيب حرياتنا وممارساتنا الديموقراطية كما أنه قد يصل إلى حيث يملك حجب الحقائق عن المواطنين الأميركيين وبالتالي الخلط بين أمن الشعب الأميركي وحرياته من جهة وبين أهداف أطراف هذا التحالف ومصالحهم".

أميركا أصبح لديها جيش خطر من المفكرين الذين احترفوا تهييج القوة الأميركية واستشارتها حتى تندفع أبعد، كل يوم على طريق الحرب.

إن هؤلاء الناس وضعوا لأميركا أجندة وجدول أعمال يتضمن الآن خطة لتغيير الشرق الأوسط كله، وفيما هو واضح فإن الرأسمالية الأميركية تمول وتدعم هذه المؤسسات الفكرية التي ضلت طريقها، وجنحت إلى الإصرار على تطبيق النظام الرأسمالي حتى في عوالم الفضاء الخارجي، ثم ينتظرون أن يصفق العالم لهذا الجنوح الأميركي المجنون المتحصن في دبابات الفكر الجديدة.

أمركة العقول

في المقابل لا تكتفي هذه المؤسسات بصناعة الاستراتيجيات بل تتجه نحو صياغة العقول عبر الهيمنة على الإعلام من خلال شركات ومؤسسات إعلامية عملاقة.

فالولايات المتحدة تتحكم بحوالي 80 بالمئة من الصور المبثوثة في العالم، وداخل الاتحاد الأوروبي تمثل نسبة الأقلام الأميركية المعروضة 75 في المئة مما يعرض في دور العرض، فيما نجد 53 في المئة من المواد المقدمة في قنوات التلفزيون الأوروبية، غير القنوات المشفرة، هي مواد أميركية أيضاً، كما تهيمن على قطاع الأخبار والمعلومات المتداولة، فالاسوشيتد برس الأميركية تزود بالأنباء والصور ما يناهز 1600 صحيفة يومية و5900 محطة للراديو والتلفزيون في مختلف أنحاء العالم، بالإضافة إلى أن 90 في المئة من مواقع شبكة الانترنت هي مواقع أميركية، كل هذه العوامل تسهم في تعميم وتسويق الأفكار الأميركية، بل تنشر بنشاط النموذج الأميركي لنمط العيش في مختلف أنحاء العالم.

إذن ثمة مربع ذهبي تلعب الهيمنة الأميركية ومشروعها الإمبراطوري لعبتها بين أضلاعه وهو: الإنجيليون الجدد، المحافظون الجدد، التحالف الصناعي العسكري، الإعلام المعولم، وهو مربع يبدأ بالترويج الايديولوجي ثم برسم السياسيات والبرامج ووضعها موضع التنفيذ عبر تكامل مصالح بين الرأسمالية الأميركية المتوحشة وصناعة السلاح والسيطرة على مصادر الطاقة، يغطي كل ذلك قدرة إعلامية عابرة للقارات قادرة على اختراق العقول والترويج للمشاريع العدوانية الجديدة..

لا يعني عرض ما تقدم التهويل من قدرات الولايات المتحدة الأميركية وقوتها، إلا أنه يعني بوضوح أن المشروع الإمبراطوري على المدى البعيد يقف على أرض اقتصادية واجتماعية رخوة، وهي تتجه يوماً بعد يوم لتصبح أكثر هشاشة مثلما نرى اليوم مع صعود دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية، وفي ظل إدارة يحركها الجنوح المجنون نحو خوض حروب تستنزف الكثير من طاقاتها وقدراتها وهو ما يذكرنا بقول لأحد الحكماء: "إن شاء ربك أن يهلك عبده، أفقده أولاً عقله."

المصادر: 1 / 2 / 3