هل الروايات مفيدة أم أنها مضيعة للوقت؟!

 ما الفائدة من كتابة الرواية؟ هل الرّواية فن مُبتذل؟ هل هي مضيعةٌ للوقت؟ أليس أولئك الذين يغرقون في تفاصيلها ويعايشون أبطالها هم إما مراهقون أو مجانين أو حفنةٌ من الذين أرادوا أن ينفصلوا عن واقعهم بالعيش في الأوهام التي تنسجها خيوط الرواية بإحكام؟! كثيرةٌ هي الأسئلة الّتي يستلها الواقع ليبرزها في وجهك ولا يمكنك معها غير المواجهة..

الروايات

وكما قال أيمن العتوم (شاعر أردني) في تدوينة له: "لا شك أنّ أيّ عملٍ تقرؤه يُمكن أن يكون مضيعةً للوقت، سواء أكان هذا العمل كتابا في الفتاوى أو في الفكر أو في الاقتِصاد أو في السّياسة والاجتماع أو ديوانَ شعرٍ أو رواية أو مسرحيّة أو حتّى مقالةً كهذه الّتي أكتبها الآن، ضياع الوقت حاصلٌ على أية حال في كلّ نص تُصارع معه عقارب الزّمن لتُنهِيه، لكنّ المُعول عليه هو: ما الّذي خرجتَ به من هذا العمل بعد أن أنفقت عليه ما أنفقتَ من وقت وجُهدٍ ومال..

هذا ينطبق على أي عملٍ مقروء، لكنْ بدأت في الآونة الأخيرة تتصاعد أصواتٌ تتهم مَن يقرأ الروايات بأنهم سطحيون وساذجون وأصحاب عقول ضَحلة، وقدراتهم لا ترقَى إلى مستوى أن تقرأ في الفِكر لنيتشه ولسارتر ومالك بن نبي مثلا، أو في الفلسفة لأفلاطون وابن رشد وهيجل وعبد الرّحمن بدوي، أو في علم الاجتماع لابن خلدون ودور كايم، أو في علم النّفس لفرويد، أو... أو... وسيُصدعون رأسك وهم يلقون التُّهَم عليكَ جُزافًا بأن عقلك الصّغير لا يحتمل إلا الترهات ولذلك لا يذهب إلى هؤلاء العظماء، ولا يقدر على أنْ يستوعبَ أعمالهم الخالدة، ولا لغتهم العالية!!"

يقول نجيب محفوظ : ” إن الكتابة الروائية عن التاريخ أنواع، هناك روائي يكتب عن التاريخ رواية من أجل أن يعود الناس إلى فترة مضت من الزمان أو شخصية عاشت من قبل.  في هذه الحالة يكون للتاريخ أكثر من سبعين في المائة، وللفن أقل من ثلاثين بالمائة.
وهناك الروائي الذي يأخذ من التاريخ الإطار فقط. ويقدم من خلاله بعض القضايا المعاصرة. أما النوع الثالث فيُكتب حين يصب الروائي تأملات فلسفية من خلال العودة إلى التاريخ“.

و الحقيقة!

والحقيقة أنّ هذا وهمٌ يُضاف إلى قائمة الأوهام الكثيرة الأخرى الّتي وقع فيها العقل الجمعي القرائيّ العربي إن صحّت التّسمية، فما ينطبق على الرواية ينطبق على غيرها، فكم من كتبٍ دُبّجت في الفكر ليس لها بالفكر أيّة صلة، وكم من حبر أريق في تأليف كتابٍ في الفلسفة ليس له من الفلسفة إلا عنوانه، وكم من ديوان شعرٍ تعبتِ الأيدي في نَظْمه لا القلوب وليس له من الشّعر إلاّ اسمه، وكم من مِداد سُكب على صفحاتِ مُصنفٍ في علم النّفس لا يُساوي شيئًا، وكم من مُؤلفات "ليست بنبع إذا عُدت ولا غربِ"، فهل خرجَ أقوامٌ ينفخون صُدورهم ويرفعون عقيرتهم وهم يهتفون: إن قراءة هذه الكتب ليستْ إلاّ مضيعةً للوقت؟!

إنّ الكتاب الجيد، ذلك الّذي يجعلك تخرجُ منه إنسانا آخر! يُحوّل مجرى النهر الذي كان يسير برتابة في أعماقك!! هو جيّد بالقيمة الّتي تخرج منه بعد أن تقرَأَه، بالرسالة الّتي ائتلفَ بها وِجدانُك، وتناغَمتْ بها مشاعرُك، بالسّؤال الّذي طرحه وظلّ مُعلّقًا يحوم في فضاء العقل مثل نحلة لها صوتٌ ولَسْعٌ في كلّ حين، بالمصباح الّذي أنارَ الطّريق، باللّغة الّتي أصلحتِ النّفوس، بالأسلوب الّذي أمتع القلوب، بالخيال الّذي طاف بالأرواح في عالَم من السّحر والجمال، فهل يجتمع كلّ ذلك في شيء كما يجتمع في الرّواية؟!

فقد تكون قراءة رواية أفضل من قراءة كتاب تاريخ يصف نفس المرحلة، لأن أغلب كتب التاريخ تُركز على الأحداث السياسية وتكتب تاريخ الملوك والساسة، لكن ما نسبة الكتب التاريخية التي تغوص لقلب المجتمع فتصف لك الحياة اليومية والعلاقات الإنسانية والصراعات الاجتماعية؟

يمكنك أن تقرأ من الكتب عن الحقبة الملكية في مصر، ثم التجربة الناصرية في الخمسينيات والستينيات، لكن نجيب محفوظ هو الذي سيغوص بك في أعماق الحارة المصرية، وإحسان عبد القدوس هو الذي سيعرفك على نمط حياة الطبقة المخملية، ويغطي لك يوسف السباعي جانبًا من هذه و تلك، ويبكيك خيري شلبي على أحوال المهمشين.

لن تجد في كتاب التاريخ إلا حقائق مجردة في قالبٍ جامد - بفرض أنها حقائق - لكن الرواية دون غيرها هي التي ستغطي الجوانب الإنسانية التي لا يمكن صبها في قالبٍ جامد.

لا أحد يقول إن قراءة الروايات هي بديل عن قراءة التاريخ بالطبع، الفكرة هي أن الرواية الجيدة التي أحسن كاتبها صياغتها، وبذل جهدًا بغوصه وسط عشرات الكتب ليضع تخيله لنمط الحياة ورسمه لشخصيات هذه المرحلة، هذه الرواية التي تخاطب القلب هي مكملة للكتاب الذي يُخاطب العقل، بل وقد تدفعك من الأساس إلى فتح العديد من المراجع الأصلية للاستزادة.

إن الفائدة من قراءة الرواية ليست مجرد فائدة معلوماتية، فليس هذا هو أساس الرواية أصلا، فكما أن الرواية مركبة من أغراض مختلفة بنسب مختلفة، فكذلك الفائدة مركبة، من إحساس، ومفردات ولغة، ومعلومات، وخيال، وحتى فلسفة. لكن استعراض نماذج لروايات يحتاج مواضيع مستقلة ولا يتسع المقام لها هنا.

وأسوأ شيء للقاريء هو أن يستغرق في القراءة في جانبٍ وحيد دون أن يمر على جوانبٍ أخرى، وبعض القراء ينظر نظرة دونية لبعض القراءات وبالأخص الروايات، لكن الواقع هو أن كل مادة مكتوبة يستطيع القاريء أن يخرج منها بفائدة، حتى لو كانت الفائدة الوحيدة هي ألا يقرأ لكاتبها مرةً أخرى.

الرواية قطعة فنية ..

يكفي أن نقرأ الأدب من أجل المتعة الجمالية. أي قطعة أدبية، سواء قصة أم رواية أم قصيدة أم مسرحية، هي قطعة فنية تمنحنا الشعور بالرضى والسعادة والمتعة عند قراءتها.

إن لم تكن متأكداً بعد من قدرة الروايات على جعل عالمك أجمل وأغنى، فليست المشكلة في الروايات، ولا المشكلة عندك بالتأكيد، المشكلة هي أنك لم تجد بعد الرواية التي تخاطبك، الرواية التي تحرك الساكن فيك، التي تشعر أنها كتابك المفضل فعلاً، لذلك استمر بالبحث والقراءة ولا شك أنك ستجدها.

كثيرون يعيشون بدون قراءة صحيح، وهم سعداء أيضاً، ولن يعرفوا أبداً أن هناك شيئاً ينقصهم حتى يجدوا أول كتاب يخاطبهم بعمق وبعدها لن يتوقفوا عن القراءة أبداً. الذي يقول ما فائدة الروايات هو كمن يقول ما فائدة الرسم أو الموسيقا أو النحت أو التصوير. إنها علاج نفسي، واعتراف، وتسيلة ومعرفة..

المصادر: raffy / feker / aljazeera