كيف يقوم "الجمهور" بجعل التافهين مشاهير ؟!

مع ثورة وسائل التّواصل وتقنيات الاتّصال وطوفان الدّعاية الهائل، تغيّرت الأمور، وجرى ويجري باستمرار إضعافُ التساؤل عن جدوى امتلاك الأشياء، أو الهدف من التمتّع بخدمة، أو الغاية من استخدام تطبيق، أو الدافع لمتابعة شخص..

كيف يقوم الجمهور بجعل التافهين مشاهير

يجد الناس أنفسَهم اليوم يشترون أشياء لا يعلمون لم اشتروها، بل ربما لم يفكّروا بذلك أصلا، ويدفعون للحصول على خدمات لا يعلمون غايتَهم منها، ويحصلون على عشرات من التطبيقات على هواتفهم الذكيّة دون أن يفكّروا في الهدف أو الجدوى من استخدام هذا التطبيق بعينِه، ويضغطون زر المتابعة لأشخاص كثيرين، ويجدونَ أنفسهم تدريجيّا جزءا من دائرة تأثير هؤلاء الأشخاص، خيرا وشرّا، دون أن يتساءلوا عن الهدف من متابَعة هذا الشّخص بالذات.

ربّما تشعرُ وأنتَ تقرأ بغرابة الطّرح، فلماذا عليّ أن أفكّر قبل أن أتابع شخصا على وسائل التّواصل الاجتماعيّ؟...
نعم .. لماذا لا يتساءل النّاس عن هدفهم من متابعة شخص والوقوع ضمن دائرة تأثيره، ولماذا يفعلون ذلك بتلقائيّة؟ .. سنعرض بعض النقاط التي توضح هذا الأمر بإذن الله..

1- الخوف من الاستثناء

من أهمّ الأسباب التي يندفعُ الناسُ بتأثيرِ منها إلى المتابَعة التلقائية غير المتسائلة لشخص/أشخاص على شبكات التّواصل، الرغبةُ بالبقاء على صلة واطّلاع، والخوف من الوقوع ضحيّة للاستثناء.فالإنسان لديه ميلٌ طبيعيّ إلى الاجتماع والتّواصل، ويُزعجُه غالبا أن يكون خارج دائرة النّقاش.

ولأن من الشّائع جدّا أن يكون "المشاهير الفارغون" من مثيري الجدل، فلا أحد يريد أن يكون خارج النّقاش حين يتعلّق الأمر بهم وبما يثيرونه. لذا، فالمُتابع لا يُتابِع بالضرورة لتحصيل فائدة، أو لنقض فكرة خاطئة، بل الهدف الأساسيّ، اللاواعي غالبا، هو البقاء على صلة بالنّقاش الدّائر، وعدم تفويت فرصة أن يكون جزءا منه، أو عارفاً بما يدور الحديث حولَه على الأقلّ.

لتفهم أكثر إليك هذا المثال :تخيّل لو كان فيسبوك يستخدم شعارا مثل: "شارك معنا لتحصل على الفائدة" ألن يدفعَك هذا للتساؤل عن الفائدة التي تجنيها من فيسبوك في كل مرة تفتحه فيها؟

من السّهل أن يجد المرء سببا عقلانيّا للمتابعة، مثل النّقد وتحذير الآخرين، لكنّه في الحقيقة يريدُ بدافعٍ من الإعجابِ النفسي الخفيّ أن يظل ضمنَ دائرة تأثير المشهور.

ويمكن لقوّة الرغبة في البقاء على اطّلاع أن تكون جارفة بالفعل، وتدفعَ الشخصَ إلى متابعة أخلاطٍ من البشر، وما هبّ ودبّ من المشاهير، والقوّة اللاواعية التي تعمل هنا هي الخوف من الاستثناء، والخوف من العزلة خارج دوائر النّقاش.

2- وهم النّقد

يحاول كثيرون إقناع أنفسِهم أنّهم يُتابعون الفارغين من أجل نقدهم، وأنّ عليك أن تكون مطّلعا على الظاهرة حتّى تنقدها وتستطيعَ تجنّبها، لكنّ هذا الكلام كثيرا ما يكون تبريرا وعقلنة للتغطية على إعجاب خفيّ.
لنتذكّر هنا أننا نتحدّث عن شخصيّات تمتلك دائما شيئا مُغريا بالمتابعة، فلا شكّ أن هناك ميلاً لمتابعة دعاة الإيجابية والنجاح، ومن يخاطبُك ويعتبرك جمهوره الجاهز ويستهدفُ ما تريد أن تسمعَه، ومن يُتيح لك مجالا للمشاركة في أحاديث متّصلة بالزواج/الجنس، ومن تشعرُ أنّه يوفّر لك قربا من سلطة النجومية دون أن يتحدّى ذهنيّتَك وذائقتَك. هذا كلُّها مغريات لا يُستَهان بها.

بالتّالي، فمن السّهل أن يجدَ المرء سببا عقلانيّا للمتابعة، مثل النّقد وتحذير الآخرين، لكنّه في الحقيقة يريدُ بدافعٍ من الإعجاب الخفيّ أن يظلّ ضمنَ دائرة تأثير المشهور.

3- سهولة الجِدال 

من طبيعة وسائل التواصل الاجتماعيّ أنها سجاليّة، حافلة بالجدل، بل يكادُ يكون الجدلُ وإثارتُه المتواصِلة من أهمّ وسائل تضخّمِها وانتشارها ومن أهم أسباب الإقبال الهائل عليها.

بطبيعة الحال، يتفاوت هذا الجدل بين عاقل ناضج، وبين سطحيّ مبتذل. الجدل الذي يثيرُه كثيرٌ من المشاهير سهلٌ دائما، بمعنى أنّ المشاركة فيه متاحة للجميع، وكثيرا ما يكون جدلا حول أمور لا يمكن حسمُها بالمنطق أو بالتجربة، بل هي قضايا خلافية محتدِمة تعتمد على اختلاف الأذواق أو اختلاف المنظور أو اختلاف الظروف او اختلاف تجارب الحياة. هذه القضايا من الممكن إثارة جدل كبير حولها، ومن الممكن للجميع أن يُشاركوا فيه. جدل يمكن المشاركة فيه بلا استعداد ولا أهليّة خاصّة، وبقدر ما يُحقّق هذا النوع من الجدل للجمهور قدرة على الحضور، فهو يزيد في شهرة المتابَعين ويوسّع دوائر تأثيرهم.

4- دائرة الإهتمامات

عوامل كثيرة، من بينِها وسائل التّواصل الاجتماعي، خلقت ما يشبه دائرة من الاهتمامات التي يعرف الإنسان نفسَه من خلالِها، ويستطيع بموجبِها أن يشعرَ أنّه حاضرٌ في هذا العالم. مكوّنات هذه الدائرة قد تتفاوت، غيرَ أنّ بعض المكوّنات دائمة التكرار إلى حدّ بعيد. مثلا، يحرص أكثر مرتادي وسائل التّواصل على الإعلان، من خلال المنشورات والإعجابات، عن توجّه فكريّ معيّن، وموقف دينيّ معيَّن، ونمطٍ موسيقيّ مفضَّل، ونمطٍ معيّن من الأفلام أو المخرِجين يفضّلونَه، وربّما اهتمامٍ أدبيّ ما.

يصعبُ على مرتادِ وسائل التّواصل الاجتماعيّ أن يتّخذ قرارا بأنّ اتخاذ موقف علني سجالي من الدّين والتديّن ليس من شأنه، لأنّ هذا ليس مجالاً يمكنُه أن يُساهم فيه بشيء يتجاوزُه إلى غيره، بل ما يتيحه له تكوينُه النفسيّ والثقافيّ هو تبنّي موقف ديني خاصّ فحسب. ويصعبُ كذلك على مرتاد وسائل التواصل أن يقتنع في قرارة نفسِه بأنّ الأفلام والسينما ليست مجالا يمكنُه إبداء الرأي فيه بحرفيّة، أو بما يتجاوزُ مجرَّد التفضيلات الذوقيّة غير المعلَّلة. ويصحُّ هذا على سائر مكوّنات الدائرة.

يقع مرتادُ وسائل التواصل بين ضغطين متعارِضَين: ضغط شعورِه الصّادق مع نفسِه بأنّ بعض هذه المجالات -مكوّنات الدائرة- ليست مجالَه، وبالتّالي فعليه ألا يتبنّى فيها آراء حادة أو سجاليّة، وضغط وسائل التّواصلِ نفسها على مرتادِها لإبداء رأيه في كلّ شيء، خصوصا في القضايا التي تُصبِحُ مثارَ جدلٍ ويشعر إن لم يقل رأيَه بخصوصها أنّه مستبعَد.

يُغلِق المتابِع الأجزاء النّاقصة من دائرتِه، ويُشعِرُ نفسَه أنّه على اطّلاع على القضايا المهمّة وأنّ له موقفا منها، وأنّه أكملَ ما تبقّى باختيارات فنيّة وموسيقيّة وأدبيّة، وبالتّالي فهو قادرٌ على أن يعيشَ في بيئة وسائل التّواصل دون شعورِ بالغربة أو النقص. بطبيعة الحال، الطرف الآخر من المعادَلة كاسبٌ أيضا، وهو المشهورُ العاديّ او المتواضع القدرات، فهو ينتشرُ ويتّسعُ جمهورُه، فتكتملُ دائرة المنفعة المتبادَلة.

مصدر : الجزيرة