ترك الغزالي ثروة علمية روحية دينية وألف أكثر من سبعين كتاباً في فقه الشافعية والمناظرة والدفاع عن الدين الإسلامي والرد على الفلاسفة وأحسن كتبه وأشهرها على الإطلاق كتاب إحياء علوم الدين ، وهو في أربعة أجزاء .
وتميز الغزالي بالجرأة والشجاعة والذكاء؛ فقد واجه الاتجاهات الفكرية المختلفة التي سادت في عصره بذكاء وشجاعة نادرين، وكان نقده مركزا على نقد الفرق المتطرفة من منطلق إخلاصه للإسلام، وكان في نقده لها يتسم بالنزاهة والموضوعية.
وللغزالي آراء محمودة في التربية وفي التعليم حيث يرى الغزالي أن الغرض من طلب العلوم هو في المقام الأول التقرب إلى الله تعالى ، دون الرياسة والمباهاة والمنافسة .
كما أن للغزالي آراء في مايجب أن يكون عليه المعلم والصفات التي يتوجب أن يتحلى بها المتعلم.
ومهمة التربية وواجبها ووظيفتها في نظر الغزالي : صيانة الطفل من قرناء السوء ، وتشجيع الأطفال على الأخلاق الكريمة ، واستخدام اللوم والعتاب والتوبيخ ولكن بحكمة ، ومنع الطفل المتعلم من أن يفعل الشيء خفية ، وتعليم الطالب على كيفية تعامله مع أقرانه من المتعلمين ، والزهد والرفعة في الإعطاء لا الأخذ .
من هو أبو حامد الغزالي ؟
1- الغزالي مفكرا
يبدو أن فكر الغزالي مزيج من علوم شتى صقلها التفكير و أصفتها تجاربه العلمية. فقد كان الغزالي رجلا متعطشا إلى معرفة كل شيء، فكان دائرة معارف عصره، ونال لقب حجة الإسلام ومجدد المئة الخامسة.
لكن أهمية الغزالي ليست في معرفته الموسوعية، فكم من موسوعيين في التاريخ لم يتبؤوا مكانة الغزالي في عقول المسلمين ومشاعرهم، ولم يفوزوا بلقب حجة الإسلام.
والغزالي -كما يبدو لدارسه بشكل عام- واحد من أكبر مفكري الإسلام، ولعله أقربهم إلى الإبتكار. فآراءه في التربية و التعليم وحدها يمكن أن تعتبر تجديدا مهما في وضع قواعد سلوكية للمريدين وطلبة العلم فهو من القائلين بأن التربية يجب أن تتناول العناصر الثلاث: الروح و العقل و الجسم في عملها و أن إهمال واحد من هذا العناصر ينتج عنه نقصا في التربية، وقد ينتقل أثره إلى العنصرين الآخرين.
ويرى "كولد تسيهر" أن الغزالي قد استطاع بقدرة المفكر أن يشيع الفكرة الدينية العامة التي رفع بها معه شأن آراء الصوفية وجعلها من العوامل الفعالة في الحياة الدينية في الإسلام . ومهما تكن الآراء التي قيلت عن الغزالي مختلفة فإن الجميع متفقون على مكانته في شؤون المعرفة ورسوخ قدمه فيها.
و من الملامح الفكرية عن الغزالي أن الشك عرض له في وقت مبكر، وكان شكه صاحب فضل عليه، لانه هو الذي دفعه إلى البحث وطلب الحقيقة وتلمس الإيمان، فدرس كل العلوم الدينية و المذهبية الموجودة في عصره.
ونستطيع أن نستعرض المراحل الفكرية التي مر بها الغزالي في حياته، فنجد أولا المرحلة التي سبقت شكه، وفيها كان يطلب العلم، ويكون شخصيته الفكرية ثم المرحلة التي ظهر فيها الشك، وقد جاءه الشك خفيفا، ثم اشتد وقوي بعد ذلك، وتلك المرحلة طالت وامتدت، ثم المرحلة التي أعقبت الشك، وهي مرحلة الهدوء و الإطمئنان و الوقوف على الحقيقة عن طريق التصوف، ثم مرحلة التأمل و التدبر على انفراد في أثناء عزلته بدمشق وبطوس، ثم مرحلة العودة إلى عرض ما يعلم ويرى عن طريق التدريس و التوجيه الديني، ثم مرحلة الممارسة للتصوف، و الزهد في أواخر أيامه بطوس.
2- الغزالي فيلسوفا
إن الغزالي يهدمه الفلسفة قد غدا فيلسوفا، ولكن بمعيار آخر ومن منطلق آخر. لم يعد تابعا، بل أصيلا مستقلا، وأنه فيلسوف و إن لم يرد أن يكون فيلسوفا.ولعله لو سئل –كما قال الأستاذ العقاد- أأنت فيلسوف؟ لأنكر ذلك.
وهذا أمر اعترف به كثيرون في الشرق و الغرب، حتى قال الفيلسوف الشهير "رينان": "لم تنتج الفلسفة العربية فكرا مبتكرا كالغزالي"، و يبين أن الفلاسفة الإسلاميين قبله وبعده كانوا أتباعا للفلسفة الأرسطية أو الأفلاطونية الحديثة، و ان الغزالي وحده هو الذي ثار عليها واتخذ له نهجا خاصا.
وقد رأى كثير من علماء المسلمين قديما أن الغزالي رغم حربه للفلسفة لم يزل متأترا بها، وحسبنا أن أحد دعائم الفلسفة وهو المنطق، قد تبناه الغزالي ودافع عنه، و أضفى عليه من ثقافته الإسلامية، وكتب فيه عدة كتب (معيار العلم) و (محك النظر) و(القسطاس المستقيم)، وقد أعلن أن تعلمه فرض كفاية، كما جعله مقياسا لصحة العلوم كلها، حتى علوم الدين نفسها، وذهب إلى أن من فقد هذا المعيار لا ثقة بعلمه، حتى جلب عليه سخط كثر من علماء المسلمين في مختلف المدارس و العقليات، من ابن الصلاح إلى ابن تيمية الناقد المنهجي الموضوعي للمنطق الأرسطي.
ويتمكن الغزالي من دخول عالم الفلسفة لأنه يملك ملكة التجريد. ويرى العقاد أن تصوف الغزالي قد منحه قدرة على التفكير الفلسفي الحر، و التأمل العقلي العميق الذي لا يتاح مثله لمن يفكر وهو رهن محابس الماديات و الشهوات.
3- الغزالي فقيها
لقد تعلم الغزالي طرفا من الفقه في صباه بطوس على يد الإمام أحمد الراذاكاني كما عرفنا. وازداد اشتغاله بالفقه في شبابه قبل أن يتصوف، ولم يترك البحث فيه بعد تصوفه،بل لقد مزج الفقه بالتصوف مزجا عجيبا، فبث في الأحكام الفقهية حياة التصوف وروحـــانيته، و أيد التصوف بأحكام الفقه وتشريعاته، فخدم الشريعة بالحقيقة، كما أيد الحقيقة بالشريعة، فكان متصوفا فقيها، وفقيها متصوفا.
و ألف الغزالي في الفقه كتبا كثيرة ما بين مسهب ومتوسط ومختصر، و كأنه أراد أن يدل على تفننه في التأليف و تنوع طريقته بين و التطويل و الإعتدال و الإختصار و التركيز فألف في الفقه كتبا أربعة تتدرج تدرجا تنازليا من فسحة الإسهاب إلى ضيق الإيجاز، وسماها بأسماء تدل على ذلك. وهذه الكتب الأربعة هي: البسيط و الوسيط و الوجيز و الخلاصة.
ولم يكتف بهذه الكتب، بل ألف أيضا: المأخذ في الخلافيات، وشفاء العليل في بيان مسائل التعليل، وبيان القولين للشافعي، وغير ذلك...
ومن جهود الغزالي في الفقه فتاويه المشهورة، و في هذه الفتاوى كان يصول ويجول، و يحلل و يفصل ويلمح صورا كثيرة محتملة في موضوع الإستفتاء فيوردها و يذكر حكمها، مما يدل على عقل واسع وذكاء عجيب وملكة فقهية نادرة.
وكذلك كانت جهود الغزالي الفقهية تدور حول ثلاثة مواضيع: أصول الفقه، وفروع الفقهية، وحكمة التشريع. و إذا كان الشافعي قد سبق فوضع علم الأصول وحدد فيه المنــاهج و الموازين و الضوابط، فقد جاء الغزالي بعده بنحو ثلاثة قرون، فسار على طريقه في الأصول، ولكن مع البسط و الشرح و التحليل والتدليل.
4- الغزالي متصوفا
عاش الغزالي في بيئة كثر فيها المتصوفة و هو يسمعهم و يتصل بهم،وكان لذكر البالغ في نفسه دون شك، كما أنه درس ما كان في عصره من علوم وثقافات، يكون منها علم التصوف ومبادئه.
و الجو الذي أحاط بالغزالي منذ صباه كان مفعما بعبير التصوف، فأبوه و أخـــوه وعمــــه و الوصي عليه و أستاذه الفارمدي و الجويني كلهم متصوفة، و الوزير نظام الملك محب للصوفية ثم هناك التدين الدافع إلى التصوف، وهناك عاطفة الغزالي المتدفقة ونفسه المشرقة.
ولعل شواغل من الهوى او الشهرة او الطموح شغلت الغزالي عن العناية البارزة بالجانب الصوفي في صدر حياته، ولكنه حين حاسب نفسه وراجعها غلبت عليه الدوافع القديمة فساقته بكليته إلى رحاب التصوف. تصوف الغزالي بعد فترة الشك فأصابه تحول عنيف مجرى حياته، فإذا به يزهد بالحياة كلها وينغمس في حالات من السمو الروحي في استقصاء نهايات الأفكار على الطريقة الصوفية.
و إعلان الغزالي -حقيقة- عن تصوفه لم يكن عندما ترك بغداد "488" هـ بل على إثر عودته منها حوالي "498" هـ حيث قطع كل صلاته مع العالم الخارجي الذي غلبت عليه النفعية التي تبعده عن الآخرة بشكل حقيقي فقد وعظ بمادة "إحياء علوم الدين" في نظامية بغداد الذي ألفه خلال رحلته و في دمشق بالذات.
ومما لا ريب فيه أن أبرز ما أخذ على الغزالي، اندماجه في طريق الصوفية اندماجا يكاد يكون كاملا، و إذعائه لما عند القوم من معارف و أحوال و أعمال، دون أن يحكمها إلى منطق الفقه و أصوله. وسر هذا أنه تعامل مع التصوف بقلبه دون عقله وبذوقه قل فقهه.
من أجل هذا أنكر عليه ابن الجوزي وغيره من الناقدين، قبوله لكثير من أفكار الصوفية و أعمالهم و أحوالهم، و هي مخالفة لقانون الشرع منحرفة عن الكتاب و السنة.
ومع هذا لا ينكر منصف ودارس للغزالي و لإحيائه خاصة، أنه لم يقبل التصوف بعجزه، بل رفض في حزم تصوف أهل الحلول و الإتحاد كالحلاج و أشباهه، ولم يقبل إلا التصوف المعتدل القريب من الكتاب و السنة، واجتهد أن يرد كل فكرة أو سلوك مما يقول به المتصوفة إلى أصول إسلامية، و أن يستدل عليها بالقرآن و الحديث و الأثر.
ومما يسجل له انه نبه على ضرورة العلم الشرعي لسالك طريق الآخرة، خلافا لما كان شائعا بين كثير من الصوفية أن العلم حجاب. وقد جعل أول كتاب من كتب الإحياء الأربعين "كتاب العلم" ،و أول عقبة يجب أن يجتازها العابد هي العلم، كما في "منهاج العابدين"، و أكد في مواضع لا تحصر ان السعادة لا تنال إلا بالعلم و العمل.
و من أهـــم ما أبرزه الغزالي في التصـــــوف: أنه نقله من مجرد الذوق و التحليـــل و الشطح و التهويل، إلى علم اخلاقي عملي يعالج أمراض القلوب و آفات النفوس و يزكيها بمكارم الأخلاق.
ومن عرف كيف كان التصوف قبل الغزالي، ثم كيف صار بعده، عرف فضل الغزالي على التصوف و أهله، وما ترك فيه من أثر واضح يشهد به المتخصصون في علم هذا الجانب من جوانب الثقافة و الحياة الإسلامية.
آراء الغزالي التربوية
أثرت اتجاهات الغزالي الفلسفية الصوفية على آرائه التربوية تأثيرا واضحا، كان الغزالي ينزع إلى الواقعية في تفكيره ملقيا أهمية إلى سعادة الدنيا سعادة الآخرة مع الحرص الشديد على التطهر من الرذائل التحلي بالفضائل لم ينس الغزالي في غمرة اهتمامه بالدين عنايته بالعلوم الدنيوية كالطب ، الحساب وبعض الصناعات.
وقد كان دائب السعي لتربية الأفراد تربية صحيحة فبالأفراد تصلح المجتمعات، و كان يرى أن التربية للإنسان قادرة على تكميل ما به من نقص، فالطريق إلى تربية الخلق فيما يرى الغزالي هو التخلق أي حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب، فمن أراد مثلا أن يحصل لنفسه خلق الجود فعليه ان يتكلف فعل الجود و هو بذل المال حتى يصير ذلك طبعا له، فالغزالي يهتم بمسالة رياضة النفس على ما يرغب المرء فيه من مكارم الأخلاق ، و كان الغزالي شديد الاهتمام بالعلم التعليم فهو يرى أن التعليم الصحيح هو السبيل إلى التقرب من الله من ثم إلى سعادة الدنيا الآخرة، فهدف التعليم التهذيب عند الغزالي هو الكمال الإنساني. يبلغ الإنسان كماله باكتسابه الفضيلة عن طريق العلم هذه الفضيلة تسعده في دنياه تقربه من الله فيسعد في أخرته أيضا.
- التربية الأخلاقية :
إن إيمان (الغزالي) بإمكان تغيير الأخلاق وإصلاحها يقودنا إلى فكرة جديدة هي التربية أو التنشئة الأخلاقية، وقد رسم لنا الفيلسوف منهجاً تربوياً واضحاً لتربية الإنسان أخلاقياً، ولم يقتصر في رسم هذا المنهج على المراحل المبكرة من حياة الإنسان وحدها. وإنما تعداها إلى كل مراحل حياته، وما سبق وتحدثنا عنه من تغيير الأخلاق وإصلاحها وتهذيبها يمكن أن نعدّه تربية أخلاقية للإنسان اليافع والراشد، الذي بإمكانه أن يسلك أكثر من سبيل لمعرفة العيوب وتقويمها، وليس هذا فحسب بل إنه وضع لكل فضيلة أخلاقية طرقها الخاصة التي تساعد على تنميتها وتعزيزها، كما بين كيفية التخلص من الرذائل كل على حدة، وهذا ما سنعرض له عند الحديث عن القيم الأخلاقية. أما الآن فسنتناول التنشئة الأخلاقية عند الأطفال بشكل عام، ذلك أن هذه التربية أو التنشئة هي الأساس في تكوين رجل المستقبل وترسيخ القيم الأخلاقية في نفسه كما أشرنا قبل قليل.
إن تتبع الخطوات التي أثارها الإمام (الغزالي) لتحديد منهجه في التربية الأخلاقية وضبطه يُنبنا عن مبلغ عنايته واهتمامه بالجانب الأخلاقي ودرايته بفعاليته في حياة الإنسان، كما يكشف بوضوح عن أصالة (الغزالي) في هذا الجانب والمتمثلة خصوصاً بالربط بين التصوف والفعالية الأخلاقية، أو توجيه الأخلاق لتنحو منحى صوفياً، متشحة بوشاح روحي يضفي عليها طابعاً جديداً بحيث تغدو الممارسة الأخلاقية جزءاً صميمياً من الحياة الروحية للإنسان.
يتكون هذا المنهج التربوي من مجموعة من الدعائم والخطوات يمكننا القول إنها تبدأ بالواجبات الأخلاقية التي ينبغي الالتزام بها أوامرَ ونواهي، وبالتالي هي ما ينبغي أن تتوجه التنشئة الأخلاقية إلى تكريسه في حياة الطفل. ثم العوامل الضرورية والمساعدة بالعملية التربوية بصورتها المثلى، ثم خطوات العمل التربوي والأسس التي ينبغي توفرها في المربي على نحو خاص، وهي على النحو التالي:
1- الواجبات الأخلاقية:
ينبغي في أن يراعى في تربية الأطفال توجيههم إلى تقمص القيم الأخلاقية الإيجابية، أو الفضائل، وإلى النفور من القيم الأخلاقية السلبية، أو الرذائل على اختلاف أنواعها وتباين تسمياتها، فيحذر من الجشع والطمع والكبر والكذب والنفاق واللعن والسب والسرقة والفحش والخيانة... وما جرى في مجرى هذه الرذائل. ويحبب إليه الصدق والأمانة والإخلاص والتواضع والوفاء والتأدب في معاملة الآخرين... وهلمَّ جراً من هذه الفضائل "فإذا كان النشوء صالحاً كان هذا الكلام عند البلوغ واقعاً مؤثراً ناجعاً يثبت في قلبه كما يثبت النقش في الحجر. وإن وقع النشوء بخلاف ذلك حتى آلف الصبي اللعب والفحش والوقاحة وشره الطعام واللباس.... نبأ قلبه عن قبول الحق نبوة الحائط عن التراب اليابس".
2- نقاء النفس:
يرى الإمام (الغزالي) أن النفس البشرية صفحة نقية بيضاء تقبل كل نقش وصورة تعرض عليها. وها هوذا يصف القلب الطاهر للطفل بأنه "جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش ومائل إلى كل ما يمال إليه -أي أن الإنسان يخلق قابلاً للخير والشر- فإن عوّد الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وإن عوّد الشر وأُهمل شقي وهلك" الأمر الذي يعطي للتربية أهم دور في تكوين الإنسان وبناء شخصيته وتحديد معالمها وأبعادها، وكثيراً ما ألحف (الغزالي) على ضرورة العناية بالأطفال وحسن توجيههم لما أدركه من أهمية التربية ودورها الحاسم في بناء شخصية الطفل.
وكذلك يرى الإمام (الغزالي) من جهة ثانية أن الإنسان مفطور على الميل إلى القيم الأخلاقية الإيجابية، وإلى الخير عموماً، ميلاً غريزياً، وليس من تناقض البتة هنا كما يلوح به ظاهر القول "فإذا كانت النفس بالعادة تستلذ الباطل وتميل إليه وإلى المقابح فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه مدة والتزمت المواظبة عليه؟ بل ميل النفس إلى هذه الأمور الشنيعة خارج عن الطبع. يضاهي الميل إلى أكل الطين فقد يغلب على بعض الناس ذلك بالعادة، فأما ميله إلى الحكمة وحب الله تعالى ومعرفته وعبادته فهو كالميل إلى الطعام والشراب".
ويبدو من خلال هذا النص أن (الغزالي) ظل مخلصاً لما ذهب إليه من نقاء النفس، تأكيداً منه على الحرية والاختيار، ولذلك نجد من يستلذ بالباطل كما نجد من يستلذ بالحق، وإنما هذا الميل الفطري إلى الحق بمثابة برهان على وجود الخالق الذي خلق مع الإنسان ما يقوده إليه.
ومن ذلك نرى أن التربية بقدر ما هي مهمة وضرورية، ومعقدة أيضاً، فإنها سهلة يسيرة إن كانت تسير في الطريق الصحيح لأن المربي لن يجد صعوبة بالغة في إيصال الصواب إلى النفس لأنها تميل إليه بطبيعتها.
3 - ضرورة المعلم:
ولابد للطفل من معلم مرب يحسن زرع الفضائل في نفسه ونزع الرذائل منها، وفي هذا يقول: "اعلم أنه ينبغي للسائل شيخ مرشد مرب ليخرج الأخلاق السيئة منه بتربيته، ويجعل مكانها خلقاً حسناً، ومعنى التربية يشبه عمل الفلاح الذي يقلع الشوك ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحسن نباته ويكمل ريعه".
إن إلحاف الإمام (الغزالي) على ضرورة المعلم المربي مع عدم تبيانه إن كان بإمكان الأب القيام بهذا الدور يعني أنه يميل إلى عدم كفاية الأسرة كفاية مطلقة في تربية الطفل ذلك أنه ليس من الضرورة أن يكون كل الآباء والأمهات على درجة من الوعي والمعرفة تؤهلهم للقيام بدورهم التربوي على أكمل وجه، ولذلك لابد من المعلم المختص الذي يعرف كيف يكتشف الأدواء ويحسن علاجها.
4- توظيف العلم:
ويرى الإمام (الغزالي) أن العلم ليس يطلب لذاته، وإنما له وظيفة ودور في حياة الإنسان، وهو تحسين وتجويد العمل، وإفادة الإنسان في مختلف مراحل وظروف حياته، ولذلك يشبه لنا حافظ العلم بالمدجج بالأسلحة، فإن استخدم هذه الأسلحة عند كل حاجة لها فقد أفاد من حملها ولم يكن حملها عبئاً لا عمل له إلا إثقال كاهله، وإن اكتفى بحمل الأســـلحة، وتعرض للخـطر دون استـخـدامها فقد هـلك، ولـم يـغنه عن الهلاك ما تدجج به من أسلحة، وهذا حال حامل العلم الذي لا يسخره للإفادة منه، وبذلك يغدو كأنه خلو من العلم لأن العلم لا يقوم من ذاته بدفع الشر عن صاحبه كما أن الأسلحة لا تدفع الخطر عن حاملها من تلقاء ذاتها ولذلك قال: "العلم بلا عمل جنون، والعمل بغير علم لا يكون".
5- دور القصص:
ويرى (الغزالي) أيضاً أن للقصص دوراً هاماً في غرس الفضائل في قلوب الأطفال وفي دفعهم إلى التخلق بالأخلاق الحسنة، اللهم إن كانت هذه القصص موجهة إلى هذه الغاية، وإلا فإنها ستغرس بذور الفساد في نفوس الأطفال، ولذلك على الطفل أن "يتعلم القرآن وأحاديث الأخبار وحكايات الأبرار وأحوالهم لينغرس في نفسه حب الصالحين" ويقتدي بهم ويتخلق بأخلاقهم، كما عليه أن يبتعد عن أخبار الفسق والمجون، أو لنقل ما يثير الانفعالات الشهوية والهيجانات العاطفية " كالأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله... التي يعدها أصحابها من الظرف ورقة الطبع".
وقد أشبه (الغزالي) في ذلك الفيلسوف اليوناني (أفلاطون -427-347ق.م) الذي طرد الشعراء من جمهوريته إذ يقول: "وإذا حل بدولتنا إنسان بارع في الظهور بكل الصور ومحاكاة كل شيء، وأراد عرض قصائده على الجمهور فإننا سنكرمه تكريم قديس بارع، ولكننا سنخبره أن ليس لمثله مكان في دولتنا، وسنقصيه إلى دولة أخرى بعد أن نسكب العطر على رأسه" هذا رغم إيمانه (كالغزالي) بأهمية القصص في تهذيب نفوس الأطفال، الأمر الذي حدا به إلى القول: "ثم نوعز إلى الأمهات والمرضعات أن يقصصن ما اخترناه من تلك الخرافات (القصص) على الأطفال. وأن يكيفن بها عقولهم أكثر مما يكيفن أجسادهم بأيديهن".
6- القدوة الحسنة:
وينبغي على المربي أن يكون القدوة الحسنة لمن يقوم على تربيتهم، ولعل أفضل معيار للوقوف على ذلك هو موافقة القول العمل، فمن وافقت أفعاله أقواله كان منسجماً مع نفسه ولاقت تعاليمه خير قبول لدى تلاميذه ، ولذلك من واجب "معلم -الصبيان أن- يبدأ بصلاح نفسه، فإن أعينهم إليه ناظرة وآذانهم إليه مصغية، فما استحسنه فهو عندهم الحسن، وما استقبحه فهو عندهم القبيح" .
وتميز الغزالي بالجرأة والشجاعة والذكاء؛ فقد واجه الاتجاهات الفكرية المختلفة التي سادت في عصره بذكاء وشجاعة نادرين، وكان نقده مركزا على نقد الفرق المتطرفة من منطلق إخلاصه للإسلام، وكان في نقده لها يتسم بالنزاهة والموضوعية.
وللغزالي آراء محمودة في التربية وفي التعليم حيث يرى الغزالي أن الغرض من طلب العلوم هو في المقام الأول التقرب إلى الله تعالى ، دون الرياسة والمباهاة والمنافسة .
كما أن للغزالي آراء في مايجب أن يكون عليه المعلم والصفات التي يتوجب أن يتحلى بها المتعلم.
ومهمة التربية وواجبها ووظيفتها في نظر الغزالي : صيانة الطفل من قرناء السوء ، وتشجيع الأطفال على الأخلاق الكريمة ، واستخدام اللوم والعتاب والتوبيخ ولكن بحكمة ، ومنع الطفل المتعلم من أن يفعل الشيء خفية ، وتعليم الطالب على كيفية تعامله مع أقرانه من المتعلمين ، والزهد والرفعة في الإعطاء لا الأخذ .
من هو أبو حامد الغزالي ؟
1- الغزالي مفكرا
يبدو أن فكر الغزالي مزيج من علوم شتى صقلها التفكير و أصفتها تجاربه العلمية. فقد كان الغزالي رجلا متعطشا إلى معرفة كل شيء، فكان دائرة معارف عصره، ونال لقب حجة الإسلام ومجدد المئة الخامسة.
لكن أهمية الغزالي ليست في معرفته الموسوعية، فكم من موسوعيين في التاريخ لم يتبؤوا مكانة الغزالي في عقول المسلمين ومشاعرهم، ولم يفوزوا بلقب حجة الإسلام.
والغزالي -كما يبدو لدارسه بشكل عام- واحد من أكبر مفكري الإسلام، ولعله أقربهم إلى الإبتكار. فآراءه في التربية و التعليم وحدها يمكن أن تعتبر تجديدا مهما في وضع قواعد سلوكية للمريدين وطلبة العلم فهو من القائلين بأن التربية يجب أن تتناول العناصر الثلاث: الروح و العقل و الجسم في عملها و أن إهمال واحد من هذا العناصر ينتج عنه نقصا في التربية، وقد ينتقل أثره إلى العنصرين الآخرين.
ويرى "كولد تسيهر" أن الغزالي قد استطاع بقدرة المفكر أن يشيع الفكرة الدينية العامة التي رفع بها معه شأن آراء الصوفية وجعلها من العوامل الفعالة في الحياة الدينية في الإسلام . ومهما تكن الآراء التي قيلت عن الغزالي مختلفة فإن الجميع متفقون على مكانته في شؤون المعرفة ورسوخ قدمه فيها.
و من الملامح الفكرية عن الغزالي أن الشك عرض له في وقت مبكر، وكان شكه صاحب فضل عليه، لانه هو الذي دفعه إلى البحث وطلب الحقيقة وتلمس الإيمان، فدرس كل العلوم الدينية و المذهبية الموجودة في عصره.
ونستطيع أن نستعرض المراحل الفكرية التي مر بها الغزالي في حياته، فنجد أولا المرحلة التي سبقت شكه، وفيها كان يطلب العلم، ويكون شخصيته الفكرية ثم المرحلة التي ظهر فيها الشك، وقد جاءه الشك خفيفا، ثم اشتد وقوي بعد ذلك، وتلك المرحلة طالت وامتدت، ثم المرحلة التي أعقبت الشك، وهي مرحلة الهدوء و الإطمئنان و الوقوف على الحقيقة عن طريق التصوف، ثم مرحلة التأمل و التدبر على انفراد في أثناء عزلته بدمشق وبطوس، ثم مرحلة العودة إلى عرض ما يعلم ويرى عن طريق التدريس و التوجيه الديني، ثم مرحلة الممارسة للتصوف، و الزهد في أواخر أيامه بطوس.
2- الغزالي فيلسوفا
إن الغزالي يهدمه الفلسفة قد غدا فيلسوفا، ولكن بمعيار آخر ومن منطلق آخر. لم يعد تابعا، بل أصيلا مستقلا، وأنه فيلسوف و إن لم يرد أن يكون فيلسوفا.ولعله لو سئل –كما قال الأستاذ العقاد- أأنت فيلسوف؟ لأنكر ذلك.
وهذا أمر اعترف به كثيرون في الشرق و الغرب، حتى قال الفيلسوف الشهير "رينان": "لم تنتج الفلسفة العربية فكرا مبتكرا كالغزالي"، و يبين أن الفلاسفة الإسلاميين قبله وبعده كانوا أتباعا للفلسفة الأرسطية أو الأفلاطونية الحديثة، و ان الغزالي وحده هو الذي ثار عليها واتخذ له نهجا خاصا.
وقد رأى كثير من علماء المسلمين قديما أن الغزالي رغم حربه للفلسفة لم يزل متأترا بها، وحسبنا أن أحد دعائم الفلسفة وهو المنطق، قد تبناه الغزالي ودافع عنه، و أضفى عليه من ثقافته الإسلامية، وكتب فيه عدة كتب (معيار العلم) و (محك النظر) و(القسطاس المستقيم)، وقد أعلن أن تعلمه فرض كفاية، كما جعله مقياسا لصحة العلوم كلها، حتى علوم الدين نفسها، وذهب إلى أن من فقد هذا المعيار لا ثقة بعلمه، حتى جلب عليه سخط كثر من علماء المسلمين في مختلف المدارس و العقليات، من ابن الصلاح إلى ابن تيمية الناقد المنهجي الموضوعي للمنطق الأرسطي.
ويتمكن الغزالي من دخول عالم الفلسفة لأنه يملك ملكة التجريد. ويرى العقاد أن تصوف الغزالي قد منحه قدرة على التفكير الفلسفي الحر، و التأمل العقلي العميق الذي لا يتاح مثله لمن يفكر وهو رهن محابس الماديات و الشهوات.
3- الغزالي فقيها
لقد تعلم الغزالي طرفا من الفقه في صباه بطوس على يد الإمام أحمد الراذاكاني كما عرفنا. وازداد اشتغاله بالفقه في شبابه قبل أن يتصوف، ولم يترك البحث فيه بعد تصوفه،بل لقد مزج الفقه بالتصوف مزجا عجيبا، فبث في الأحكام الفقهية حياة التصوف وروحـــانيته، و أيد التصوف بأحكام الفقه وتشريعاته، فخدم الشريعة بالحقيقة، كما أيد الحقيقة بالشريعة، فكان متصوفا فقيها، وفقيها متصوفا.
و ألف الغزالي في الفقه كتبا كثيرة ما بين مسهب ومتوسط ومختصر، و كأنه أراد أن يدل على تفننه في التأليف و تنوع طريقته بين و التطويل و الإعتدال و الإختصار و التركيز فألف في الفقه كتبا أربعة تتدرج تدرجا تنازليا من فسحة الإسهاب إلى ضيق الإيجاز، وسماها بأسماء تدل على ذلك. وهذه الكتب الأربعة هي: البسيط و الوسيط و الوجيز و الخلاصة.
ولم يكتف بهذه الكتب، بل ألف أيضا: المأخذ في الخلافيات، وشفاء العليل في بيان مسائل التعليل، وبيان القولين للشافعي، وغير ذلك...
ومن جهود الغزالي في الفقه فتاويه المشهورة، و في هذه الفتاوى كان يصول ويجول، و يحلل و يفصل ويلمح صورا كثيرة محتملة في موضوع الإستفتاء فيوردها و يذكر حكمها، مما يدل على عقل واسع وذكاء عجيب وملكة فقهية نادرة.
وكذلك كانت جهود الغزالي الفقهية تدور حول ثلاثة مواضيع: أصول الفقه، وفروع الفقهية، وحكمة التشريع. و إذا كان الشافعي قد سبق فوضع علم الأصول وحدد فيه المنــاهج و الموازين و الضوابط، فقد جاء الغزالي بعده بنحو ثلاثة قرون، فسار على طريقه في الأصول، ولكن مع البسط و الشرح و التحليل والتدليل.
4- الغزالي متصوفا
عاش الغزالي في بيئة كثر فيها المتصوفة و هو يسمعهم و يتصل بهم،وكان لذكر البالغ في نفسه دون شك، كما أنه درس ما كان في عصره من علوم وثقافات، يكون منها علم التصوف ومبادئه.
و الجو الذي أحاط بالغزالي منذ صباه كان مفعما بعبير التصوف، فأبوه و أخـــوه وعمــــه و الوصي عليه و أستاذه الفارمدي و الجويني كلهم متصوفة، و الوزير نظام الملك محب للصوفية ثم هناك التدين الدافع إلى التصوف، وهناك عاطفة الغزالي المتدفقة ونفسه المشرقة.
ولعل شواغل من الهوى او الشهرة او الطموح شغلت الغزالي عن العناية البارزة بالجانب الصوفي في صدر حياته، ولكنه حين حاسب نفسه وراجعها غلبت عليه الدوافع القديمة فساقته بكليته إلى رحاب التصوف. تصوف الغزالي بعد فترة الشك فأصابه تحول عنيف مجرى حياته، فإذا به يزهد بالحياة كلها وينغمس في حالات من السمو الروحي في استقصاء نهايات الأفكار على الطريقة الصوفية.
و إعلان الغزالي -حقيقة- عن تصوفه لم يكن عندما ترك بغداد "488" هـ بل على إثر عودته منها حوالي "498" هـ حيث قطع كل صلاته مع العالم الخارجي الذي غلبت عليه النفعية التي تبعده عن الآخرة بشكل حقيقي فقد وعظ بمادة "إحياء علوم الدين" في نظامية بغداد الذي ألفه خلال رحلته و في دمشق بالذات.
ومما لا ريب فيه أن أبرز ما أخذ على الغزالي، اندماجه في طريق الصوفية اندماجا يكاد يكون كاملا، و إذعائه لما عند القوم من معارف و أحوال و أعمال، دون أن يحكمها إلى منطق الفقه و أصوله. وسر هذا أنه تعامل مع التصوف بقلبه دون عقله وبذوقه قل فقهه.
من أجل هذا أنكر عليه ابن الجوزي وغيره من الناقدين، قبوله لكثير من أفكار الصوفية و أعمالهم و أحوالهم، و هي مخالفة لقانون الشرع منحرفة عن الكتاب و السنة.
ومع هذا لا ينكر منصف ودارس للغزالي و لإحيائه خاصة، أنه لم يقبل التصوف بعجزه، بل رفض في حزم تصوف أهل الحلول و الإتحاد كالحلاج و أشباهه، ولم يقبل إلا التصوف المعتدل القريب من الكتاب و السنة، واجتهد أن يرد كل فكرة أو سلوك مما يقول به المتصوفة إلى أصول إسلامية، و أن يستدل عليها بالقرآن و الحديث و الأثر.
ومما يسجل له انه نبه على ضرورة العلم الشرعي لسالك طريق الآخرة، خلافا لما كان شائعا بين كثير من الصوفية أن العلم حجاب. وقد جعل أول كتاب من كتب الإحياء الأربعين "كتاب العلم" ،و أول عقبة يجب أن يجتازها العابد هي العلم، كما في "منهاج العابدين"، و أكد في مواضع لا تحصر ان السعادة لا تنال إلا بالعلم و العمل.
و من أهـــم ما أبرزه الغزالي في التصـــــوف: أنه نقله من مجرد الذوق و التحليـــل و الشطح و التهويل، إلى علم اخلاقي عملي يعالج أمراض القلوب و آفات النفوس و يزكيها بمكارم الأخلاق.
ومن عرف كيف كان التصوف قبل الغزالي، ثم كيف صار بعده، عرف فضل الغزالي على التصوف و أهله، وما ترك فيه من أثر واضح يشهد به المتخصصون في علم هذا الجانب من جوانب الثقافة و الحياة الإسلامية.
آراء الغزالي التربوية
أثرت اتجاهات الغزالي الفلسفية الصوفية على آرائه التربوية تأثيرا واضحا، كان الغزالي ينزع إلى الواقعية في تفكيره ملقيا أهمية إلى سعادة الدنيا سعادة الآخرة مع الحرص الشديد على التطهر من الرذائل التحلي بالفضائل لم ينس الغزالي في غمرة اهتمامه بالدين عنايته بالعلوم الدنيوية كالطب ، الحساب وبعض الصناعات.
وقد كان دائب السعي لتربية الأفراد تربية صحيحة فبالأفراد تصلح المجتمعات، و كان يرى أن التربية للإنسان قادرة على تكميل ما به من نقص، فالطريق إلى تربية الخلق فيما يرى الغزالي هو التخلق أي حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب، فمن أراد مثلا أن يحصل لنفسه خلق الجود فعليه ان يتكلف فعل الجود و هو بذل المال حتى يصير ذلك طبعا له، فالغزالي يهتم بمسالة رياضة النفس على ما يرغب المرء فيه من مكارم الأخلاق ، و كان الغزالي شديد الاهتمام بالعلم التعليم فهو يرى أن التعليم الصحيح هو السبيل إلى التقرب من الله من ثم إلى سعادة الدنيا الآخرة، فهدف التعليم التهذيب عند الغزالي هو الكمال الإنساني. يبلغ الإنسان كماله باكتسابه الفضيلة عن طريق العلم هذه الفضيلة تسعده في دنياه تقربه من الله فيسعد في أخرته أيضا.
- التربية الأخلاقية :
إن إيمان (الغزالي) بإمكان تغيير الأخلاق وإصلاحها يقودنا إلى فكرة جديدة هي التربية أو التنشئة الأخلاقية، وقد رسم لنا الفيلسوف منهجاً تربوياً واضحاً لتربية الإنسان أخلاقياً، ولم يقتصر في رسم هذا المنهج على المراحل المبكرة من حياة الإنسان وحدها. وإنما تعداها إلى كل مراحل حياته، وما سبق وتحدثنا عنه من تغيير الأخلاق وإصلاحها وتهذيبها يمكن أن نعدّه تربية أخلاقية للإنسان اليافع والراشد، الذي بإمكانه أن يسلك أكثر من سبيل لمعرفة العيوب وتقويمها، وليس هذا فحسب بل إنه وضع لكل فضيلة أخلاقية طرقها الخاصة التي تساعد على تنميتها وتعزيزها، كما بين كيفية التخلص من الرذائل كل على حدة، وهذا ما سنعرض له عند الحديث عن القيم الأخلاقية. أما الآن فسنتناول التنشئة الأخلاقية عند الأطفال بشكل عام، ذلك أن هذه التربية أو التنشئة هي الأساس في تكوين رجل المستقبل وترسيخ القيم الأخلاقية في نفسه كما أشرنا قبل قليل.
إن تتبع الخطوات التي أثارها الإمام (الغزالي) لتحديد منهجه في التربية الأخلاقية وضبطه يُنبنا عن مبلغ عنايته واهتمامه بالجانب الأخلاقي ودرايته بفعاليته في حياة الإنسان، كما يكشف بوضوح عن أصالة (الغزالي) في هذا الجانب والمتمثلة خصوصاً بالربط بين التصوف والفعالية الأخلاقية، أو توجيه الأخلاق لتنحو منحى صوفياً، متشحة بوشاح روحي يضفي عليها طابعاً جديداً بحيث تغدو الممارسة الأخلاقية جزءاً صميمياً من الحياة الروحية للإنسان.
يتكون هذا المنهج التربوي من مجموعة من الدعائم والخطوات يمكننا القول إنها تبدأ بالواجبات الأخلاقية التي ينبغي الالتزام بها أوامرَ ونواهي، وبالتالي هي ما ينبغي أن تتوجه التنشئة الأخلاقية إلى تكريسه في حياة الطفل. ثم العوامل الضرورية والمساعدة بالعملية التربوية بصورتها المثلى، ثم خطوات العمل التربوي والأسس التي ينبغي توفرها في المربي على نحو خاص، وهي على النحو التالي:
1- الواجبات الأخلاقية:
ينبغي في أن يراعى في تربية الأطفال توجيههم إلى تقمص القيم الأخلاقية الإيجابية، أو الفضائل، وإلى النفور من القيم الأخلاقية السلبية، أو الرذائل على اختلاف أنواعها وتباين تسمياتها، فيحذر من الجشع والطمع والكبر والكذب والنفاق واللعن والسب والسرقة والفحش والخيانة... وما جرى في مجرى هذه الرذائل. ويحبب إليه الصدق والأمانة والإخلاص والتواضع والوفاء والتأدب في معاملة الآخرين... وهلمَّ جراً من هذه الفضائل "فإذا كان النشوء صالحاً كان هذا الكلام عند البلوغ واقعاً مؤثراً ناجعاً يثبت في قلبه كما يثبت النقش في الحجر. وإن وقع النشوء بخلاف ذلك حتى آلف الصبي اللعب والفحش والوقاحة وشره الطعام واللباس.... نبأ قلبه عن قبول الحق نبوة الحائط عن التراب اليابس".
2- نقاء النفس:
يرى الإمام (الغزالي) أن النفس البشرية صفحة نقية بيضاء تقبل كل نقش وصورة تعرض عليها. وها هوذا يصف القلب الطاهر للطفل بأنه "جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش ومائل إلى كل ما يمال إليه -أي أن الإنسان يخلق قابلاً للخير والشر- فإن عوّد الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وإن عوّد الشر وأُهمل شقي وهلك" الأمر الذي يعطي للتربية أهم دور في تكوين الإنسان وبناء شخصيته وتحديد معالمها وأبعادها، وكثيراً ما ألحف (الغزالي) على ضرورة العناية بالأطفال وحسن توجيههم لما أدركه من أهمية التربية ودورها الحاسم في بناء شخصية الطفل.
وكذلك يرى الإمام (الغزالي) من جهة ثانية أن الإنسان مفطور على الميل إلى القيم الأخلاقية الإيجابية، وإلى الخير عموماً، ميلاً غريزياً، وليس من تناقض البتة هنا كما يلوح به ظاهر القول "فإذا كانت النفس بالعادة تستلذ الباطل وتميل إليه وإلى المقابح فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه مدة والتزمت المواظبة عليه؟ بل ميل النفس إلى هذه الأمور الشنيعة خارج عن الطبع. يضاهي الميل إلى أكل الطين فقد يغلب على بعض الناس ذلك بالعادة، فأما ميله إلى الحكمة وحب الله تعالى ومعرفته وعبادته فهو كالميل إلى الطعام والشراب".
ويبدو من خلال هذا النص أن (الغزالي) ظل مخلصاً لما ذهب إليه من نقاء النفس، تأكيداً منه على الحرية والاختيار، ولذلك نجد من يستلذ بالباطل كما نجد من يستلذ بالحق، وإنما هذا الميل الفطري إلى الحق بمثابة برهان على وجود الخالق الذي خلق مع الإنسان ما يقوده إليه.
ومن ذلك نرى أن التربية بقدر ما هي مهمة وضرورية، ومعقدة أيضاً، فإنها سهلة يسيرة إن كانت تسير في الطريق الصحيح لأن المربي لن يجد صعوبة بالغة في إيصال الصواب إلى النفس لأنها تميل إليه بطبيعتها.
3 - ضرورة المعلم:
ولابد للطفل من معلم مرب يحسن زرع الفضائل في نفسه ونزع الرذائل منها، وفي هذا يقول: "اعلم أنه ينبغي للسائل شيخ مرشد مرب ليخرج الأخلاق السيئة منه بتربيته، ويجعل مكانها خلقاً حسناً، ومعنى التربية يشبه عمل الفلاح الذي يقلع الشوك ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحسن نباته ويكمل ريعه".
إن إلحاف الإمام (الغزالي) على ضرورة المعلم المربي مع عدم تبيانه إن كان بإمكان الأب القيام بهذا الدور يعني أنه يميل إلى عدم كفاية الأسرة كفاية مطلقة في تربية الطفل ذلك أنه ليس من الضرورة أن يكون كل الآباء والأمهات على درجة من الوعي والمعرفة تؤهلهم للقيام بدورهم التربوي على أكمل وجه، ولذلك لابد من المعلم المختص الذي يعرف كيف يكتشف الأدواء ويحسن علاجها.
4- توظيف العلم:
ويرى الإمام (الغزالي) أن العلم ليس يطلب لذاته، وإنما له وظيفة ودور في حياة الإنسان، وهو تحسين وتجويد العمل، وإفادة الإنسان في مختلف مراحل وظروف حياته، ولذلك يشبه لنا حافظ العلم بالمدجج بالأسلحة، فإن استخدم هذه الأسلحة عند كل حاجة لها فقد أفاد من حملها ولم يكن حملها عبئاً لا عمل له إلا إثقال كاهله، وإن اكتفى بحمل الأســـلحة، وتعرض للخـطر دون استـخـدامها فقد هـلك، ولـم يـغنه عن الهلاك ما تدجج به من أسلحة، وهذا حال حامل العلم الذي لا يسخره للإفادة منه، وبذلك يغدو كأنه خلو من العلم لأن العلم لا يقوم من ذاته بدفع الشر عن صاحبه كما أن الأسلحة لا تدفع الخطر عن حاملها من تلقاء ذاتها ولذلك قال: "العلم بلا عمل جنون، والعمل بغير علم لا يكون".
5- دور القصص:
ويرى (الغزالي) أيضاً أن للقصص دوراً هاماً في غرس الفضائل في قلوب الأطفال وفي دفعهم إلى التخلق بالأخلاق الحسنة، اللهم إن كانت هذه القصص موجهة إلى هذه الغاية، وإلا فإنها ستغرس بذور الفساد في نفوس الأطفال، ولذلك على الطفل أن "يتعلم القرآن وأحاديث الأخبار وحكايات الأبرار وأحوالهم لينغرس في نفسه حب الصالحين" ويقتدي بهم ويتخلق بأخلاقهم، كما عليه أن يبتعد عن أخبار الفسق والمجون، أو لنقل ما يثير الانفعالات الشهوية والهيجانات العاطفية " كالأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله... التي يعدها أصحابها من الظرف ورقة الطبع".
وقد أشبه (الغزالي) في ذلك الفيلسوف اليوناني (أفلاطون -427-347ق.م) الذي طرد الشعراء من جمهوريته إذ يقول: "وإذا حل بدولتنا إنسان بارع في الظهور بكل الصور ومحاكاة كل شيء، وأراد عرض قصائده على الجمهور فإننا سنكرمه تكريم قديس بارع، ولكننا سنخبره أن ليس لمثله مكان في دولتنا، وسنقصيه إلى دولة أخرى بعد أن نسكب العطر على رأسه" هذا رغم إيمانه (كالغزالي) بأهمية القصص في تهذيب نفوس الأطفال، الأمر الذي حدا به إلى القول: "ثم نوعز إلى الأمهات والمرضعات أن يقصصن ما اخترناه من تلك الخرافات (القصص) على الأطفال. وأن يكيفن بها عقولهم أكثر مما يكيفن أجسادهم بأيديهن".
6- القدوة الحسنة:
وينبغي على المربي أن يكون القدوة الحسنة لمن يقوم على تربيتهم، ولعل أفضل معيار للوقوف على ذلك هو موافقة القول العمل، فمن وافقت أفعاله أقواله كان منسجماً مع نفسه ولاقت تعاليمه خير قبول لدى تلاميذه ، ولذلك من واجب "معلم -الصبيان أن- يبدأ بصلاح نفسه، فإن أعينهم إليه ناظرة وآذانهم إليه مصغية، فما استحسنه فهو عندهم الحسن، وما استقبحه فهو عندهم القبيح" .
محول الأكوادإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء الإبتسامات