من أقنع " شيخ الإسلام " أن الطباعة ليست رجسا من عمل الشيطان .. تعرف عليه !!

رواد عالم تعلم ، السلام عليكم ورحمة الله ، انتشر استعمالُ المطبعة في أوروبا بعد اختراعها في العام 1439، لكنها تأخرت في الدخول إلى الدولة العثمانية حتى الثلث الأول من القرن الثامن عشر، وذلك بسبب القوى الدينية التي اتخذت موقفاً معارضاً لها. 


يذكر أديب مروة في كتابه الصحافة العربية: نشأتها وتطورها، أن رجال الدين أفتوا بأن المطبعة رجس من أعمال الشيطان، لكن من منظور الاتصال يمكن أن يعزى صدور مثل هذه الفتوى إلى رغبة الجهات المحافظة ممارسة احتكار المعرفة والسيطرة على العقل؛ فالمعرفة بحد ذاتها قوة يمكن أن تتحدى السلطة.

حروف الطباعة المعدنية كان أول من استخدمها هو "يوهانس غنسفلايش" الذي اشتهر فيما بعد بلقب "يوحنا غوتنبرغ" الألماني المولود عام 1397، وعرف على أنه مخترع حروف الطباعة، وأول من وحولها إلى حقيقة واقعة.

ساعدته مهنته القديمة في سبك المعادن على صب الحروف ضمن قوالب ثابتة، حتى أصبحت هي حجر الأساس الذي بنى عليها اختراعه الجديد، وفتح بذلك صفحة جديدة في تاريخ المعرفة الإنسانية.

وكانت "التوراة" هي الكتاب الأول الذي عمل "غوتنبرغ" على طباعته، حيث أخرجه في 1280 صفحة.

وبينما كانت "التوراة" هي أول عمل يخرج من مطبعة غوتنبرغ فقد كان الخوف من تحريف "القرآن الكريم" وكتب التراث في العالم الإسلامي هي حجة العلماء وشيخ الإسلام فى ذلك الوقت "يكيشهيرلي عبد الله أفندي" لمنع ذلك الإختراع الذي كان له فيما بعد الدور الأكبر في انتشال أوروبا من الجهل إلى جادة العلم.



كيف بدأت القصة؟!


بدأت مشكلة الطباعة في العالم الإسلامي عندما أصدر السلطان العثماني "بايزيد الثاني" سنة 1485 أمرا سلطانيا نهى فيه رعاياه عن إنشاء المطابع، ويُعزى هذا القرار إلى أمرين هامين، الأول أن العلماء عارضوا هذا الاختراع خوفا على الكتب الدينية من التدليس والتحريف والفوضى التي قد تتبع ذلك.

لذا كان تأسيس أي مطبعة على أراضي الدولة العثمانية يحتاج إلى فتوى من شيخ الإسلام و هو ما كان صعبا في ذلك الوقت، إضافة إلى أن وجود المطبعة كان سيضر بأكثر من 20 ألف ناسخ وورَّاق في اسطنبول وحدها كانوا يمتهنون هذه العمل في ذلك الوقت.

العجيب في الأمر أن الأقليات في الدولة العثمانية هي الوحيدة التي منحت استثناءات في إنشاء المطابع و ذلك عندما رخص السلطان "بايزيد الثاني" لليهود إقامة مطبعة خاصة بهم منذ العام 1494، لإعانتهم على حفظ دينهم، ولكنه اشترط عليهم ألاّ يطبعوا كتباً بالأحرف العربية، ويقتصروا في الطباعة على الحروف العبرانية واللاتينية، و قد أقاموا نتيجة ذلك مطبعتين، إحداهما في سالونيك و الأخرى في إسطنبول.

الأقليات الأخرى من رعايا الدولة العثمانية كانت لهم مطابعهم الخاصة، ففي عام 1567 أقام الأرمن أول مطبعة لهم في مدينة سيفا، كما أسس اليونانيون مطبعتهم الأولى في إسطنبول عام 1627، أما العرب المسيحيون فقد سمحت الدولة لهم باستخدام المطبعة ابتداء من عام 1610، كل ذلك في وقت كان ممنوعا على رعايا الدولة العثمانية من المسلمين إنشاء المطابع.

هذا الحظر الديني و القانوني على استخدام الطباعة يعتبره البعض من أهم أسباب التراجع العلمي فى العالم الإسلامي آنذاك، و لكسر هذا الجدار الصلب الذي وقف حائلا في ظل هذه القفزة العلمية الهائلة فى أوروبا، كان لا بد من وجود شخص يمكنه إقناع "شيخ الإسلام" أن المطبعة حلال! و كان ذلك الشخص هو إبراهيم متفرقة.



من هو إبراهيم متفرقة؟!


ولد إبراهيم متفرقة عام 1674 في مدينة قوزوار المجرية، و كان مسيحيا يدين بالبروتستانتية، و كان يجيد إضافة إلى العثمانية اللغتين الفرنسية والمجرية، و قام بترجمة عدة كتب بهذه اللغات.

أما اسم "متفرقة" فقد كان يطلق في عهد الدولة العثمانية على نوع من العاملين الذين يقومون بخدمة السلطان و الوزراء، والذين كانوا يحظون بثقتهم.

و لمتفرقة كتب ألفها بعد إسلامه بسنوات مثل "رسالة إسلامية" و التي نقل من خلالها قصة تحوله للإسلام، كما ألف كتاب أصول الحكم لنظام الأمم.

كتب متفرقة أيضاً كتاباً أو رسالة بعنوان "وسيلة الطباعة" و هي الرسالة التي ضمن فيها حججه و آراءه التي أقنع من خلالها "شيخ الإسلام" و "الصدر الأعظم" بضرورة إنشاء مطبعة للمسلمين، وطبع متفرقة تلك الرسالة في مطبعته بعد أن منح له الإذن بإنشائها.



دور إبراهيم متفرقة


عمل متفرقة في البداية على إقناع الصدر الأعظم إبراهيم باشا والسفير العثماني في باريس جلبي محمد أفندي يكرمي سكر بضرورة إنشاء الطابعة، حيث قدم لهم هذه الرسالة و ساق فيها الحجج موضحا الحاجة إلى المطبعة وفوائدها و دورها في حياة الشعوب.

كما أوضح متفرقة في رسالة "وسيلة الطباعة"، "كيف اهتم المسلمون بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف و ضبطه، ثم تحدث عن ضياع كتب كثيرة أيام جنكيز خان و هولاكو والأندلس، مما أدى إلى ضياع العلوم و المعارف، و بين كذلك كيف أن الكثير من الكتب النادرة ضاعت بسبب الحرائق التي تنشب في اسطنبول بين حين و آخر، و ذكر أن طلبة العلم عاجزون عن توفير الكتب المقررة عليهم".


فتوى شيخ الإسلام بجواز المطبعة


أفتى شيخ الإسلام يكيشهر لي عبدا لله أفندي أثناء مشيخته (1718-1730) بجواز افتتاح أول مطبعة بالحرف العربي في إسطنبول نتيجة ضغوط من الصدر الأعظم إبراهيم باشا الذي كان راغباً مع السلطان أحمد الثالث (1717-1730) في إدخال إصلاحات للبلاد. 

وقد حدث قبل ذلك ببضع سنوات، أن أوفد الصدرُ الأعظم السفيرَ يرمى سكز جلبي محمد أفندي إلى باريس (في العام 1721)، فقضى السفير فيها أربعة شهور وكتب كتاباً عن مشاهداته مبدياً اهتماماً واضحاً بالتطور التقني والصناعي الذي تشهده تلك البلاد. وعند عودته اقترح على الصدر الأعظم إقامة مطبعة في إسطنبول وفتح مكتبة عامة فيها. 

وأعد إبراهيم متفرقة آغا (وكان من أصل مجري)، بالتعاون مع سعيد، ابن السفير جلبي محمد أفندي، الذي أصبح بدوره صدراً أعظم في ما بعد، والذي كان رافق والده في سفارته لفرنسا، مشروع تأسيس مطبعة في العاصمة. لكن الباب العالي لم يستجب لهذا الطلب أول مرة. وعاود متفرقة الطلب في العام 1726.

 ولمعرفته بموقف رجال الدين من المطبعة، فإنه لم يكتفِ بطلب إصدار فرمان من السلطان، بل طلب أيضاً صدور فتوى من شيخ الإسلام تسمح صراحةً بطباعة الكتب.

 وأرفق بطلبه رسالة وسيلة الطباعة التي أورد فيها حججاً تبين مزايا الطباعة، ذكر من بينها: أنها تضاعف إلى ما لا نهاية عدد النسخ من الكتاب الواحد، وأنها تراعي الدقة الكاملة للنص، كما أنها تعمل على إحياء المؤلفات الإسلامية التي كادت تنقرض، وتخفيض أسعار الكتب وتثقيف الرعية والقضاء على الجهل، وأن الخط المستخدم في الطباعة يمكن أن يضاهي خط اليد من حيث الجمال والتناسق. 

وأضاف في رسالته أن توفر الكتب سيكون مدعاة لتأسيس مكتبات عامة لفائدة الناس، ومواجهة عملية إغراق الدولة بالكتب المطبوعة في أوروبا التي تُطبع هناك وتُباع هنا.

استجاب شيخ الإسلام عبدالله للضغوط التي مارسها عليه الصدر الأعظم إبراهيم باشا، وأصدر فتوى شرعية أجازت طباعة الكتب ما عدا تلك المتعلقة بالشريعة والفقه الإسلامي.

 بعد ذلك قام الصدر الأعظم، الذي كان متحمساً للمشروع، بإقناع السلطان أحمد الثالث الذي وافق بدوره على إصدار فرمان (خط همايون) يسمح بإنشاء المطبعة في تموز 1727. 

وصدر ترخيص المطبعة باسم إبراهيم متفرقة و سعيد شلبي قبل أن يستقل متفرقة بها. 

وهكذا عُدّ متفرقة، وهو مجري الأصل، مؤسس أول مطبعة عربية في إسطنبول. 

عملت الفتوى الدينية على مواجهة المأزق القائم حينئذ، فقسمت العمل بين الناسخ والطابع. لقد أبقت الفتوى للناسخ أو الخطاط، الذي أبدى مقاومة لمشروع المطبعة، صناعةَ نسخ الكتب الدينية وتخطيطها. 

بالمقابل، سمحت الفتوى في الآن نفسه للطابع (متفرقة وشريكه في هذه الحالة) طباعة كتب الآداب والعلوم؛ واشترط قرار السلطان مراقبة النصوص، فشُكلت لجنة مراقبة للمطبوعات مكونة من أربعة علماء، وكان من مهامها إصدار رخص لطبع الكتب.

رسائل متفرقة إلى الصدر الأعظم

يذكر الباحث محمد زاهد غول في دراسته عن إبراهيم متفرقة أن الحجج التي ساقها في رسالته لإقناع أركان الدولة تدل على أن النفوس غير مهيئة لقبول الطباعة، و كانت النتيجة أن الرفض و التردد ظل سيد الموقف، فقام بكتابة رسالة آخرى عام 1727 جدد فيها ما ذكره في رسالته السابقة وأضاف إليها طلبا بإصدار فرمان من السلطان و فتوى من شيخ الإسلام يذكر فيهما السماح له بطبع الكتب، كما أرفقها بنماذج طباعية من كتاب معجم "صحاح الجوهري" أو "وان قولي" الذي كان ينوي طبعه بعد الموافقة، و يدل ذلك على أنه كان قد قد أسس المطبعة فعليا تحت غطاء من بعض أركان الدولة المؤمنين بالفكرة، و لكنه كان ينتظر الفرمان والفتوى ليعلن ذلك.

الرسالة الثانية ذكر فيها أن "صدور أمر سام بطبع الكتب سوف يكون له أثر حسن على الطلاب الساعين في طلب العلوم الشرعية والذين لا يملكون القدرة المادية على امتلاك الكتب، و باعث لهم على اقتناء الكتب النفيسة بأسعار زهيدة"، كما قال إنه "يأمل في أن يصدر مرسوم بطباعة 500 نسخة من معجم وان قولي".

كما عرف فن الطباعة بأنه "فن الجديد و الأمر المفيد، و أن هذا الفن المحجوب عن الناس طريقة جديدة في نشر الكتب و تصحيحها و هو سبب لمنافع العباد"

ثم ختم رسالته بقوله "إن قيام سعادة الصدر الأعظم بالإشارة إلى حضرة مفتي الأنام و شيخ مشايخ الإسلام بإصدار الإذن بذلك، سوف يكون أمرا مستحسنا لدى الناس ليتبينوا أن العمل موافق للشرع المبين، و سوف يطبع هذا الأمر في أول كل كتاب".

و قد كان شيخ الإسلام في ذلك الوقت هو الشيخ يكيشهيرلي عبد الله أفندي، وقد كان للصدر الإعظم آنذاك إبراهيم باشا دورا كبيرا في ذلك، حيث وافقت توجهاته توجهات السلطان أحمد في ذلك الحين في إدخال الإصلاح إلى البلاد، و حيث كان السلطان واعيا بشكل كبير بأهمية التحديث، في حين اقتصر إدراك الطبقة الحاكمة في ذلك الوقت على الجوانب العسكرية، بينما استطاع إبراهيم متفرقة التنويري -كما يصفه زاهد غول- إدراك الخلل في الجوانب الأخرى، واستطاع تحقيق ذلك بعد معاناة استمر ثمان سنوات انتهت بإنشاء أول مطبعة للمسلمين في اسطنبول.

ثورة باترونا وإحراق المطبعة

تضمّن أول كتاب طبعه إبراهيم متفرقة وشريكه، نشْر الفرمان السلطاني ورسالة وسيلة الطباعة التي واكبت صدور الفتوى الدينية وتقريظ علماء الدين لها، حتى لا يتركا مجالاً لمتقول بعدم شرعية ما أقدما عليه. 

وتم تأسيس مطبعة دار الطباعة العامرة في منزل متفرقة. وكان أول كتاب طُبع على هذه المطبعة كتاب الصحاح للجواهري مع ترجمته للتركية في العام 1728.

 وواصلت المطبعة طباعة الكتب حتى العام 1730، حين قامت ثورة بقيادة ضابط البحرية خليل باترونالي (الذي عُرفت الثورة باسمه) وشارك فيها المتشددون الذين لم ترق لهم التجديدات على الطريقة الأوروبية، وكذلك الخطاطون والعاطلون عن العمل.

 وكان من نتائج الثورة: عزل السلطان أحمد الثالث، وقتل الصدر الأعظم إبراهيم باشا، وعزل شيخ الإسلام عبدالله، وتدمير المطبعة. 

هكذا، دفع الذين كانوا وراء الفتوى ثمناً باهظاً. لكن من يستطيع وقف حركة التاريخ؟ وبعد عقد من الزمان، أعيد بناء المطبعة، وبقيت تعمل بصورة متقطعة حتى العام 1783. 

في ظل الظروف التي واجهت إنشاء المطبعة، لم يُطبع على مطبعة متفرقة، حتى ارتقاء السلطان سليم الثالث سدة الحكم في العام 1787 (أي قبل قيام الثورة الفرنسية بقليل)، سوى عدد يسير من الكتب لا يتجاوز سبعة عشر كتاباً، أي بمعدل كتاب واحد في كل ثلاث سنوات من حياة مطبعته.

 وقد طُبعت معظم هذه الكتب باللغات التركية والفارسية والفرنسية، وقلّة منها بالعربية، كمعجم الصحاح و إعراب الكافية لابن الحاجب (مع ترجمة تركية لهما). 

أما كتب التاريخ التي نشرتها المطبعة فكانت ل تدعيم سلطة الأمراء العثمانيين، وكانت الترجمات من العربية والفارسية بهدف حذق ودراسة اللغة التركية التي استعارت في تلك المدة قرابة نصف ألفاظها من هاتين اللغتين، كما أن بعض الكتب لم تتوانَ عن الحديث على ضرورة الإصلاح وأسباب انحطاط الدولة.

 وتوقفت المطبعة أيام السلطان عبد الحميد الأول بسبب انشغال الدولة بالحروب في روسيا وبروسيا وفارس.

في تلك الأثناء، تطور موقف علماء الشرع الإسلامي في الدولة العثمانية إزاء فن الطباعة، فسمحوا بطباعة كتب الفقه الإسلامي باستثناء القرآن الكريم، وبدأت تظهر كتب الشريعة والفقه منذ العام 1803.

وحتى العام 1828، أي بعد مرور قرن على صدور الفتوى، لم يزد مجموع ما طُبع من كتب على 98 كتاباً، أي بمعدل كتاب واحد في السنة، وهذا من أوضح الأدلة على تخلف الإمبراطورية العثمانية وعدم مسايرتها للنهضة الأوروبية. 

وفي العام 1831 قامت الدولة العثمانية بتأسيس مطبعة رسمية تابعة لوزارة المعارف باسم المطبعة العامرة استمرت في العمل حتى سقوط الدولة العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الأولى. 

المصادر : 01 - 02 - 03 - 04


لا تنس مشاركة الموضوع مع أصدقائك لتعم الفائدة