قطار الدنيا !

يمكننا أن نشبه رحلة الحياة بقطار ينطلق في مسار طويل ... يتوقف في محطات .. في كل محطة يصعد إليه أناس و يهبط منه آخرون، و لقد صعدنا إلى هذا القطار في محطة من المحطات، و نرى حولنا الكثير ممن سبقونا و ممن أتوا بعدنا .. يهبط بعضهم و البعض الآخر ينتظر ... و سيأتي علينا حتما وقت نهبط فيه نحن أيضا.

قطار الدنيا !

لقد دخلنا الدنيا فوجدنا أناسا حولنا فتعايشنا و انغمسنا في ملهيات الحياة مثلهم، و لا نشعر بغرابة ما نفعله مع أن عشرات الأدلة ترى أمام أعيننا لتنبهنا بأن الدنيا ليست دار مقام، و أننا في رحلة إلى الدار الآخرة بدليل هبوط الكثيرين أمام أعيننا من قطار الحياة ... " ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون " (يس:31) . فلنحاول أخي أن نتخيل هذه الرحلة لعل ذلك يكون عونا بإذن الله للخروج من دوامة الدنيا، و الانتباه و التشمير لما ينبغي أن نقوم به ...

رحلة الحياة:

عندما نجتمع مع أقاربنا و معارفنا في مناسبة من المناسبات فإننا نجد فيهم الطفل الصغير، و الشيخ الكبير، و نجد كذلك الفتي و الشاب و الكهل .. فإذا ما تقابلنا في مناسبة أخرى بعد عدة سنوات فسنجد أن الطفل قد صار فتى، و الفتى قد صار شابا، و الفتاة تزوجت و أنجبت، و أن هناك من كبار السن من انحنى ظهره، و من كلَّ بصره، و من لا يستطيع المشي إلا متكئا على عصى، و لا نفاجأ إذا ما أُخبرنا بموت أحد هؤلاء الشيوخ ... فأي دلالة يحملها يا ترى هذا المشهد؟ ! 

ألا يدل ذلك على أن هناك حركة نمو تحدث للناس جميعا؟ و أن كل مستسلم لها لا يمكنه إيقافها، أو تعطيل مسيرتها؟ و أن هذه الحركة تتوازى مع حركة الزمن و تعاقب الليل و النهار؟ .. إن كل البشر يتحرك للأمام مع حركة الليل و النهار.

و لكن إلى أين يتحرك ؟ !! 
إلى النهاية ... إلى الموت !! " كل نفس ذائقة الموت " (آل عمران: 175) فجميع الخلق في شتى بقاع الأرض يتحرك نحو راية واحدة، و يقطعون إليها المسافات بمرور الزمن فكلما مرت دقيقة اقتربوا من الراية، سواء كانوا منتبهين لذلك أو غافلين، ناسين أو متذكرين، مقتنعين أو معرضين.

هذه الحقيقة لا تحتاج إلى كبير عناء لإثباتها فيكفيك أن تتأكد من ذلك إذا ما بحثت عن صورك الفوتوغرافية منذ الولادة و حتى قراءة هذه الكلمات، و أن ترتب هذه الصور بطريقة تصاعدية في العمر فستجد أنك تتغير و تنمو و تكبر، فإذا ما تخيلت نفسك بعد ذلك و رسمت صورة لهيئتك بعد عشرين سنة أو أكثر ... فستصل إلى الحقيقة التي تعرفها جيدا : إن الموت نهاية كل حي.

إن رحلة الحياة ماضية في كل لحظة .. ماضية تتحرك للأمام و أنا أكتب هذه الكلمات، ماضية و أنت تقرأها .. فالزمن يمر، و المسافة تقصر، و الموت يقترب... و لكن هل الموت هو نهاية الرحلة أم أنه الراية التي نراها و لا نرى ما بعدها ؟ ! 

إن الموت هو نهاية رحلة الحياة على وجه الأرض، و من بعده يمر المرء بأحداث عظيمة يكون فيها لقاء الله عز و جل فيحاسبه على ما فعل في هذه الرحلة، فإن كان خيرا فسيفوز بموعود الله و جائزته التي وعد بها الطائعين، و إن كان شرا فسيلقى جزاءه الأليم ... " يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله و من وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ".

فحقيقة رحلة الحياة أنها رحلة إلى الله : من عنده بدأت و إليه تنتهي " كما بدأكم تعودون " ( الأعراف : 29 )
إنها رحلة الرجوع إليه سبحانه " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون " ( السجدة : 11 )
رحلة الرجوع و الحساب : " من عمل صالحا فلنفسه و من أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون " ( الجاثية : 15 )

هل لك أيها الإنسان أن ترفض السير و العودة إلى الله ؟ ! .. و لكن كيف ؟ ماذا ستفعل؟ هل ستلجأ لكون آخر؟ " يقول الإنسان يومئذ أين المفر، كلا لا وزر، إلى ربك يومئذ المستقر، ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم و أخر " ( القيامة : 10-13 )

بداية الرحلة :

تبدأ رحلة السير و الرجوع إلى الله في الحقيقة عند البلوغ و بدء سن التكليف و تستمر حتى الموت، و لئن كانت مسافات الرحلة تقدر بالزمن فإن ما يحملنا فيها هي أجسامنا فالجسد يعد بمثابة الدابة أو المركبة التي نستقلها لكي نصل إلى نهاية الرحلة في الدنيا.
لنتخيل –أخي- هذه الرحلة و كأنها تمر بطريق يركب فيه كل فرد على دابة و يسير الجميع في اتجاه واحد نحو الهدف .. الموت ! 

لو تخيلنا هذا المشهد و تعمقنا فيه، و قمنا بإسقاطه على الواقع فسنرى بعين الخيال مشاهد كثيرة:
.. سنرى مشهدا مألوفا متكررا : و هو اهتمام الكثير بدوابهم على حساب أنفسهم و قلوبهم التي تستقل تلك الدواب .. سنجدهم يبالغون في العناية بدوابهم: بطعامها و شرابها و نظافتها بصورة مبالغ فيها لدرجة أنهم يهملون أنفسهم و لا يؤدون ما عليها من أعمال طالبهم الله عز و جل بها و سيسألهم عنها عند رجوعهم إليه.

و سنرى مشهدا مثيرا يتمثل في انبهار غالبية السائرين في رحلة الحياة بالزخارف و الزينات التي تملأ الطريق، و التوجه الدائم نحوها، و الانشغال بها عن كل ما سواها.
و من المتوقع أن نشاهد تنافسا يؤدي إلى الخصومة و التدابر بين بعض السائرين بسبب رغبة البعض في الاستحواذ على جزء من الطريق و السيطرة عليه .. مع أن الجميع يسير فيه و سيتركه شاء أم أبى.

و مما سنراه كذلك نار الحسد و الغيرة تأكل قلوب بعض السائرين كلما ظهر شيء جديد على دواب أقرانهم، مع أن الحقيقة تهتف كل يوم بأن الكل سيفارق دابته فور الوصول للراية .. الموت ! 
مشاهد كثيرة، لك أخي القارئ أن تطلق العنان لفكرك فيها و أن تسقطها على الواقع الذي نحياه..

إنها رحلة حقيقية، فنحن لم نوجد في الدنيا لكي نأكل أو نشرب أو نلهو بل للقيام بمهمة محددة و هي عبادة الله عز و جلّ " و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون " ( الذاريات : 56 ) .. لم نخلق بلا هدف " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا و أنكم إلينا ترجعون، فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم " ( المؤمنون: 115-116 ) .

هذه الرحلة قائمة و مستمرة باستمرار تعاقب الليل و النهار، لذلك فإن الواجب يحتم علينا أن يكون جل اهتمامنا هو تنفيذ ما طلبه منا ربنا، حتى نفوز بجائزته و موعوده، و إن لم نفعل فعاقبة السوء تنتظرنا ... قال الرسول -صلى الله عليه و سلم- : " ... كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ".

و قال : " يا كعب بن عجرة ! الناس غاديان، فمبتاع نفسه فمعتقها، و بائع نفسه فموبقها ".