لماذا نبكي؟!

وقف على قبر ولده يبكيه ،ويبثه لوعته و أحزانه ،فذهب إليه أحدهم معزيا ،وقال له: يا عماه ،إن بكاءك لن يعيد الذي راح ..


فنظر إليه الرجل بعين دامعة ،وقال :أعلم ..ولهذا أبكي !!
إن الدموع تطهير للنفس ونقاء للصدر ،و تصبير للروح ،والمرء الذي يأبى أن يغسل عينيه بدموع الحزن و الألم لهو امرؤ قد ضل الطريق !!
فهذا يعقوب – عليه السلام – قد ابيضت عيناه من الحزن على ولده .. يبكيه حتى ذهب بصره.

وذاك محمد صلى الله عليه وسلم بكى صغيره إبراهيم .. حتى تعجب البعض ،وقد ظنوا أن مثله لا يراق له دمع و إننا إذ ننظر فلن نجد نبيا إلا وله مع الدموع حكايات ..
دموع ندم على ذنب ،ودموع تقصير في جنب الله ،ودموع غراق لأحباب و أهل.
تتعدد الأسباب .. والدمع واحد.

ولله در شاعر النيل حافظ إبراهيم إذ يناجي ربه قائلا :
يا من خلقت الدمع لطفا منك بالباكي الحزين   بارك لعبدك في الدموع فإنها نعم المعين.

إن أسوأ ما نفعله أن نحبس الدمع ،ظنا منا أننا بذلك ندلل على قوتنا ،وقدرتنا ورباطة جأشنا ،ولا ندري حينها أننا بذلك نوقف ساعة المشاعر عن الدوران ،وبأننا نخالف نواميس الحياة.

لام بعضهم نبينا صلى الله عليه و سلم عندما بكى ولده إبراهيم ،فأجابهم قائلا و دمعه لم يجف: " إنها رحمة "
نعم .. دموعنا رحمة ،تشهد لنا أمام أنفسنا أننا أضعف كثيرا مما نظن ، و بأننا رغم ما نُبديه من صلابة وشدة وقسوة ،بشر .. نتألم فنبكي !

ومازالت مدارس علم النفس تخبرنا بين الحين والآخر عن فوائد البكاء ،وخطورة حبسها مؤكدة على أن القوي هو ذلك الشخص الذي يعبر عن مشاعره دون خشية من أن يتهمه أحدهم بالضعف أو الخوار،و بأنه إذ يبكي فإنه يعبر عن أحاسيسه الصادقة ،معطيا لروحه حقها في التعبير عما يجول بها من مشاعر الحزن و الألم والانكسار.

بيد أنني أحب أن أقف على شيئين في غاية الأهمية:

أما الأول فإن الدموع تكتسب عزتها من قلتها ،وأنا إذ أؤكد على أهمية أن يبكي الواحد منا ،فإنني أشدد على أن يكون بكاؤه بعيدا عن أعين الناس ،وأن يقاوم إظهارها على البشر إلا ما تعذر منعه..
وأما الثاني فلا تستخف بالدموع إذ تتلألأ في محاجر من تعرفهم ،إياك أن تراها في أعين الكبار فتستصغر شأنهم ،أوتراها في أعين الصغار فتستخف بدمعهم أن تردد على أسناع أصحاب الدموع عبارات قاسية سخيفة من نوعية "كن رجلا" ،أو "عيب عليك أن تبكي " ،دون أن تدرك بأن الدمع يتفجر من ينبوع حار،لا يحتاج إلى أن تزيد حرارته بلوم أو تقريع أو سخرية.

نحن بحاجة أن نخبر من نحبهم عندما يبكون أن دموعهم غالية علينا ،و أنها لا تنزل على خدودهم ،إلا بمقدار ماتنزل على قلوبنا ..
بقي أن نقول إن الدموع غالية ، بيد أن أغلاها تلك التي نذرفها بانكسار إلى الله ،دموع المستغفر المنيب ،والتائب العائد لربه حاملا بين يديه ذنوبا لا يغفرها إلا رب يقدر دموع عبيده ، و يسعد بها ، إذ تدلل على أنهم مازالوا – رغم خطئهم وزلتهم – يرجون رحمته ،ويتطلعون لرضوانه.

و شتان بين دموع الدنيا و دموع الآخرة ،بين دموع النادم الراجي للعفو ،ودموع النادم القانط من فرصة أخرى يعيد بها تصحيح ماكان.
فابك يا صديقي .. لإن دموع الحزن برهان على إنسانيتك ودموع الندم برهان على عبوديتك وإلا فلم خلق الله لنا الدمع ؟ !!