كيف تنتصر في الحياة؟!

لا يمكن لأحدنا أن ينتصر في الحياة دون أن يحتك بها ،و يتصادم مع روادها ، ويحاول جاهدا أن يكون رقما صعبا فيها .. 
مهما حمل المرء منا من مُثل و قيم و مبادئ إلا أنه من أجل تغليب هذه القيم ، و جعلها حية تنبض بين الناس ، فهو مجبر أن يغوص في عالم البشر و يتفاعل معهم ، و يستمع إلى بعض ما يكره ، و يرى ما لا يحب أن يراه ..

كيف تنتصر في الحياة

في قصته العبقرية القصيرة " المرتبة المقعرة " يحكي يوسف إدريس قصة رجل متزوج حديثا ، يحمل قيما و مبادئ سامية ، لكنه يرى أن الناس ليسوا بالمستوى المطلوب كي يتفاعلوا مع ما يحمله من أفكار ثمينة عظيمة !.

قرر الرجل أن ينتظر الوقت المناسب حتى يصبح الناس مؤهلين للتفاعل مع القيم التي يحملنها ، فنام على المرتبة الرائعة الجديدة التي اشتراها ، ثم قال لزوجته : انظري من النافذة هل تغيرت الدنيا !؟ .

فردت زوجته : لا ، فقال لها : إذن لأنام يوما آخر .. !

و كلما استيقظ الرجل سألها نفس السؤال ، و هي ترد عليه بنفس الإجابة ، إلى أن مر زمن طويل ، لم يتغير فيه أي شيء ، اللهم إلا المرتبة الصلبة الجميلة المريحة التي كان ينام عليها فقد تقوست حتى ابتلعت جسده كله ، و حينما مات الرجل و وضعوا الملاءة فوقه استوي سطح المرتبة بلا أي انبعاج ، فلقد ابتلعته تماما !. 

لم تتغير الدنيا ، الشيء الوحيد الذي تغير أنه قد اختفى في تجويف كريه صنعه بتكاسله و سلبيته و انعدام بصيرته ، بينما في الحياة تدور معركة الخير و الشر بلا هوادة .
منا كثر يدمنون الشكوى و التذمر و مواجهة العالم بسيل من النقد و العدوانية يُحملون البشر مسؤولية عدم جاهزية العالم للتفاعل مع قيمهم السامية ، و أفكارهم العظيمة ، و رؤيتهم الثاقبة المذهلة !.

هؤلاء المساكين لا يدركون أن النصر لا يأتي إلا بعدما تكتحل العيون بغبار المعركة ، و أن الغارقين في مستنقع الحياة سيحتاجون لمن يتعامل مع أوساخهم وعيوبهم ،  ارتباكهم بنحو بالغ ، بلا تكبر أو تذمر ، أو نظرة دونية .
الأنبياء و المصلحون و العظماء احتكوا بالناس ، تفاعلوا معهم ، قاسموهم الهم ، و الألم ، و العذاب ..

لا أعرف أن أنبياء الله عيسى أو موسى أو يونس أو نوح أو محمدا عليهم جميعا سلام الله كان لهم قصر ، أو حرس ، أو حاجز يمنع بينهم و بين الناس ..

 على العكس من ذلك ، تؤكد كتب السير أن الواحد منهم كان يجلس بين الناس فلا يستطيع أحد أن يعرف من هو النبي من بينهم ، و ذلك لتواضعوا ، و اندماجهم الحي معهم ، و مقاسمتهم الحياة حلوها و مرها ..

هذا بالرغم من أن الله بعثهم جميعا في لحظات مظلمة في التاريخ الإنساني ، فأناروا الدنيا بطيب خصالهم ، و جميل أفعالهم ، و حسن أقوالهم ، و كانوا مضربا للأمثال في التحدي و الصمود و الاحتكاك بالبشر و معايشتهم ، و التفاعل معهم ..

علمتني الحياة يا صاحبي 

أن التذمر من الناس لديهم ثمة مشكلة ، إما في قدرتهم على التحدي ، أو صمودهم أمام تيار الفساد الجارف ، أو الخوف من تحمل تبعات المسؤولية التي وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمامها ! .

لقد كان النبي حاسما و هو يؤكد لنا أن :
" من قال هلك الناس فهو أهلكهم "

نعم .. من وسم الناس بالسوء و الهلاك لهو امرؤ يحتاج إلى مراجعة قناعاته ، و إلا كان هلاكه أقرب ممن ذمهم ..

نحتاج أن نفهم هذا جيدا ، أن ندرك أننا سنشمر الساعد ، و نشد المئزر و نهبط إلى الناس ، و كلنا ثقة أن حاجتنا لهم لا تقل عن حاجتهم لنا ، و أن استمرار الحياة يحتاج إلى مصلحين متجردين لدعوتهم ، و أتباع أوفياء جاهزين للتضحية دائما ..
و بأننا يجب لكي ننتصر ..
أن يغمرنا .. غبار الحياة .