كثر الحديث عن عبقرية خالد بن الوليد العسكرية ، والمتأمل في حياة هذا الرجل العظيم سيقف مندهشا أمام تلك العقلية الفذة التي ما خسرت معركة قط خاضتها ،وليس للحظ مكان في حياة ذلك البطل ،و إنما ذكاء ،وفطنة ،وحسن تدبير.
ومما أدهشني في سيرة خالد بن الوليد – رضي الله عنه – تلك الطريقة التي كان يستخدمها في حروبه مع أعدائه ،إذا ما رأى أنه قد فاز في المعركة ،وصار قاب قوسين أو أدنى من قطف ثمارها ،فكان يلجأ في كثير من الأحيان إلى أن يترك ثغرة في جيشه ينفذ منها جيش العدو ،وعندما سئل عن هذا علل بأن المرء حينما تُغلق أمامه السبُل فإنه يحارب حرب يائس ،ويستوي في عينه الموت والحياة، ولأن ضربات من لا يملك شيئا يخسره تكون مؤلمة في غالب الأحيان ،فإنه بثغرته هذه يوفر على جيشه مواجهة خطرة قد يخسر فيها الكثير ،أضف –أيضا – أنه يعطي الخصم بعضا من الكرامة التي تدفعه ،لأن يقبل التفاوض و كأنه ند لند ،واضعا بعض الشروط التي تحفظ له ماء وجهه.
تلك الاستراتيجية الرائعة نحتاج أن نطبقها بكثرة في حياتنا ،سواء في معاركنا الفكرية أو حواراتنا الحياتية مع الأصدقاء و المعارف ،أو حتى في علاقاتنا الأسرية بين الزوجين أو الوالدين و الأبناء.
فمن الخطأ أن يضيق المرء منا الخناق على محاوره ، ويحاول محاصرته بشتى الطرق من أجل إنهائه تماما ،وكأنه في معركة لا تقبل الحلول الوسط ،فيجد نفسه في قلب حرب ضروس ،تُستخدم فيها كل الأسلحة و يخسر فيها الجميع.
العرب قديما فطنوا إلأى أننا بحاجة إلى أن نغض الطرف عن بعض ما نكره ، ونمرر بعضا مما لا يروق لنا ،وقديما قال الحسن البصري رحمه الله " التغافل من شيم الكرام " أي أن المرء منا عندما يوهم الآخر بأنه لم ينتبه لخطئه وزلته فإنه يكون قد فعل ما تُحتمه المروءة و الشهامة ،وفي هذا قال الشاعر:
ليس الغني بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي
إن الحياة لن تمضي بنا إلى الأمام وكل منا متربص بالآخر ينتظر الفرصة كي يطرحه أرضا، ثم يرقص مبتهجا فوق جثته مؤكدا أنه قد حاز وسام البطولة والفخر.
لم تمضي و نحن نتربص لبعضنا ،كل منا ينتظر بفارغ الصبر أ، يقه الآخر في الخطأ كي يضيئ جميع الأنوار فاضحا خطأه ،قارئا عليه حكم الإثم و الإدانة.
وفي المثل الإنجليزي: " لا تسألني فأكذبك "
أي لا تضغط عليَّ بأسئلتك فيما تعلم أنه يمثل لي حرجا فتضطرني إلى أن أكذبك القول ،و أخدعك !
وهذا سبيل آخر من سبل التغاضي و التغافل عما يُمثل مأزقا ندفع إليه الآخرين ونلقي بهم فيه.
ومع الأسف فإن قليلين هم من ينتبهون لهذا و يعملون به ،ويكون الانتصار للموقف أهم عندهم من الانتصار للخُلُق ،وكسب الحوار يغلب في عقيدتهم كسب القلوب و الأفئدة.
إن ثغرة خالد بن الوليد العبقرية تعطينا الحل الناجع في التعامل مع كثير من أمورنا اليوم ففي معاركنا الحياتية نحتاجها بشدة ،كي لا نصنع أعداء يجهرون بعداوتنا وحربنا بعدما ضيقنا عليهم الخناق ،وكشفناهم تماما فيصبحوا كالأسود الجريحة ضرباتهم مفاجئة قاسية ،مؤلمة ، لا تعتمد على عقل أو منطق ،وكان يمكننا تجنبها إذا ما تركنا لهم ثغرة ينفذون منها دون أن نريق ماء وجههم كاملا.
فنحن نحتاجها في حياتنا الزوجية فنمرر ونتغابى عن كثير مما لا يروق لنا مع شركائنا كي تمر الحياة وتستمر العجلة في الدوران ،دون أن ندفعهم إلى الاشتعال و الانفجار.
كما نحتاجها مع أبنائنا كي لا نفقدهم تماما ،ونصنع بيننا و بينهم سدا منيعا يقف حائلا أمام تواصل يعطينا الفرصة لتكون بجوارهم دائما.
نحتاجها مع الجار و المدير و الصديق .. وكل من نتعامل معهم.
لنثبت لنا و لهم أنَّ عظمة نفوسنا تأبى أن تلتقط كل شاردة وواردة ،وأننا نعلو في عين أنفسنا عندما نتغافل طوعا عن أخطائهم ،لأن الانتصار للغاية يفوق عندنا الانتصار للنفس ، وأن كسب الأفئدة أهم عندنا من كسب المواقف.
من كتاب : كم حياة ستعيش - كريم الشاذلي -
محول الأكوادإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء الإبتسامات