محمد رشوان.. الرياضي الذي انحني العالم احتراما له!!

القدر هو الذي وضع اللبنة الأولى في تاريخ هذا الرجل.. !
فلم يكن محمد يريد أكثر من ممارسة رياضته الممتعة ( كرة السلة )، قبل أن تلتقطه عين أحد المدربين المهتمين بلعبة الجودو ويعجب بقوامه الرياضي ويطلب منه الانضمام إلى الفريق الذي يدربه.

محمد رشوان.. الرياضي الذي انحني العالم احتراما له!!

وعلى الرغم من أن طموح هذا الفتى الحيي كان كبيرا، إلا أن القدر هو الذي أكمل الفصل الأول في روايته، فلقد شاهده أحد خبراء لعبة الجودو اليابانيين الذين يجوبون الربوع والأندية من أجل التقاط المواهب التي يمكنها الفوز بالبطولات.

وعليه انضم محمد إلى المدرب الياباني (ياما موتو) الذي صنع منه بطلا مصريا في لعبة الجودو، وجاءت الخطوة التالية للاشتراك في البطولات العالمية .

سافر محمد إلى فرنسا ليلعب بطولة العالم في الجودو، كان الأمر غريبا ومثيرا فالأضواء والصحف والكاميرات كانت شيئا مدهشا بالنسبة له، ووجد نفسه أمام أبطال العالم في اللعبة، والذين لم تكن تتعدى صلته بهم أكثر من مشاهدتهم في التلفاز أو سماع قصصهم والانبهار بها!.

وأمام هذا الجو المدهش والغريب فقد محمد تركيزه وخسر أولى مبارياته في البطولة، ثم كانت المباراة الثانية أمام أحد اللاعبين الكوريين أصحاب الشهرة الكبيرة، والمصنف في المركز الثالث كأفضل لاعب في العالم، كانت المباراة شبه محسومة للاعب الكوري، الذي استخف باللاعب المصري، ونظر له بسخرية وتهكم.

لم ترق هذه الابتسامة للشاب العربي وقرر حينها أن يذيق هذا المغرور درسا قاسيا، وكانت الضربة القاضية هي الفيصل، والتي أهدت محمد أول فوز له في البطولة، والأهم أنها أعطته شحنة معنوية هائلة، وطموحا مشروعا بأن يكون بطلا عالميا. 

وبدأت رحلة محمد مع البطولات فسافر ابتداء إلى اليابان حيث التدريب والمعاناة، وبعدها سافر إلى ألمانيا في معسكر مغلق ثم سافر ليشارك في بطولة العالم العسكرية ليحصل على الميدالية البرونزية، لتكون أول ميدالية ذهبية في حياته.

بعدها سافر إلى البرازيل ليحصل على الميدالية البرونزية أيضا في بطولة العالم، وذهبيتين في بطولة إفريقيا في السنغال.

ليصبح محمد بطلا مصريا ذائع الصيت.. وهذا ما استوجب عليه أن يدفع ضرائب هذا النجاح المدهش !.

والضريبة الأولى أن سقف التوقعات والمطالب قد زاد سواء من محبي محمد، أو من ذاته نفسها.

كانت أولمبياد لوس أنجلوس على الأبواب، حيث الفرصة الكبيرة والنادرة لاقتناص ميدالية ذهبية، يخلد بها اسم هذا البطل وتضعه في سجل الأبطال وبدء محمد في شحذ همته واستعد لهذه البطولة بكامل تركيزه ووعيه ووضع نفسه تحت تصرف مدربيه، وعاش في معسكر مغلق لمدة ثلاثة أشهر، حيث التدريب القاسي والتركيز التام والتأهيل البدني والنفسي الشديدين.

وبدأت البطولة وبدأت معها الانتصارات..
ووصل محمد إلى المباراة النهائية، ونامت مصر ليلة المباراة وتجهزت لتستيقظ على نبأ فوز بطلها بالميدالية الذهبية، وكتابة تاريخ مصري في أحد الألعاب الرياضية.
لكن المفاجئة المدهشة أن الصحف جائتهم بخبر محزن، وهو خسارة بطلهم المحبوب للميدالية الذهبية، وعودته كوصيف للبطل.

إلى هنا.. والقصة ليس لها أي جوانب مدهشة.. لكن دعونا نقترب أكثر لنرى كيف خسر بطلنا المباراة، وأدهش العالم !!!

كانت المباراة النهائية أمام بطل العالم اللاعب الياباني ( ياما شتا )، وفي بداية المباراة - والتي بدأها محمد بتركيز وتصميم كبيرين – أصيب اللاعب الياباني في قدمه اليمنى، وأصبح لدى محمد ثغرة لإرداء غريمه الأرض والفوز عليه.

المدهش أن محمد لم يوجه أي ضربات للقدم المصابة، بل تراجع أداؤه وبدا وكأنه فقد شهيته للفوز!.

ذهب إليه مدربه ليأمره بأن يوجه لخصمه الضربات في القدم المصابة، لكن محمد ابتسم وقال له ( ديني يمنعني من ذلك )!!!.

وسقط محمد رشوان – بإرادته – أمام البطل الياباني، وسط دهشة العالم أجمع ..
سقط مبتسما، وهنأ غريمه ورفع الميدالية الفضية وابتسامته الطفولية لا تفارقه.


أعطى محمد للعالم في تلك اللحظة أحد أروع وأبلغ الدروس وهو أن الحياة بها ما هو أهم من الفوز في مباراة رياضية.
وأن حلمه الرياضي وسنوات التدريب واللحظات التي اشتاق فيها لرفع الميدالية الذهبية، لا معنى لها إذا لم تأت بطرقها الشريفة المشروعة .

قيل له وقتها: أن التاريخ لا يتذكر سوى الأبطال وأصحاب الميداليات الذهبية فقط.. لكنه لم يبد ندما على فعلته، فالشرف والكبرياء هما تاريخ المرء الحقيقي، الذي يحق له أن يفخر بهما ويتذكرهما. 

قيل له: لن يلومك أحد لو وجهت لخصمك ضربة أو أكثر إلى قدمه المصابة .. الكل يفعل ذلك، لكنه لم يرد سوى بابتسامته الوديعة مذكرا نفسه أن العظماء يلومون أنفسهم لوما قاسيا عنيفا يغنيهم عن أي لوم قد يأتي من الآخرين .
ولأن الموقف كان أكبر من استيعاب العالم.. كانت ردة الفعل أيضا على هذا الموقف غير عادية .

فلقد أصدرت منظمة اليونسكو في يوم المباراة بيانا أشادت فيه بالبطل الخلوق " محمد رشوان "، ومنحته جائزة اللعب النظيف عام 1985، وفاز بجائزة أحسن خلق رياضي في العالم من اللجنة الاولمبية الدولية للعدل، واستقبلته مصر استقبالا يليق بالرموز والعظماء، وقلدته أرفع الأوسمة، وأشادت بخلقه الرياضي، وأصر الشعب الياباني على تكريمه في طوكيو، فسافر رشوان وفي ظنه أن التكريم سيكون تكريما رسميا، إلا أنه فوجئ بعشرات الآلاف وقد خرجوا لاستقباله ما بين رجال سياسة وإعلاميين وأبطال رياضيين بالإضافة - وهذا هو الأهم - إلى الآلاف من المواطنين اليابانيين من عامة الشعب الذين أحبوا محمد .

كما حصل على شهادة امتياز خاصة لأحسن خلق رياضي لعام 1984، وجاء ضمن أفضل ستة لاعبين في العالم لعام 1984، واختارته مجلة ( الأيكيب ) الرياضية كثاني أحسن رياضي في العالم في الخلق الرياضي.

وعندما سئل بطلنا ( محمد رشوان ) عن الدافع لأن يخسر مباراة هامة كتلك، رغم سهولتها قال ببساطة: لأن ديني يمنعني من ذلك.

وكان لهذه الجملة عامل السحر ، حيث بدأ مئات الآلاف من الشعب الياباني - المعروف بتقديره الكبير للمبادئ والقيم - في البحث عن هذا الدين الذي يحث أبنائه على إعلاء القيم السامية والحرص على ارتداء لباس الشرف والخلق الرفيع، وأعلن الآلاف من الشعب الياباني إسلامه بسبب هذا البطل النادر!!!.

ترى كم منا لو كان مكان بطلنا هذا، كان سيوجه أولى ضرباته ناحية القدم المصابة؟.
والسؤال الأخطر.. كم منا من يوجه كل يوم، وكل ساعة، ضربات – ينقصها الشرف والعفة – إلى الحياة وروادها.

سؤال مؤلم لي وربما لك..!

المصدر: فصل من الكتاب القيم جدا " ما لم يخبرني به أبي عن الحياة " للاستاذ كريم الشاذلي