"مالك بن نبي" .. العالم المهمَّشُ !

يعدُّ مالك بن نبى المفكر الجزائري أحد رواد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين ويعتبره المفكرين والباحثين امتداد للعلامة ابن خلدون ويعتبر مالك بن نبي ومدرسته من أكثر المدارس الفكرية التي كان لها أثر واضح في تحديد وصنع ملامح الفكر الإسلامي الحديث، خاصة أن هذه المدرسة اهتمت أكثر من غيرها من المدارس الأخرى بدراسة مشكلات الأمة الإسلامية، انطلاقا من رؤية حضارية شاملة ومتكاملة.

مالك بن نبي

فقد كانت جهوده لبناء الفكر الإسلامي الحديث وفي دراسة المشكلات الحضارية عموما متميزة، سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو المناهج التي اعتمدها في ذلك التناول.

كان لانتشار فكر ابن نبي أثر بالغ في الكثير من مناطق العالم، التي اعتبرت أن ما قدّمه يليق بالتجربة الواقعية، كما هو الأمر في ماليزيا وإندونيسيا، ومع ذلك قليلًا ما يرد ذكر الرجل على ألسنة الجزائريين أهل بلده.

مالك بن نبي واحد من رواد النهضة الإسلامية، غني عن التعريف بين النخب السياسية والفكرية العربية والعالمية، غير أنه تعرض لهجوم هذه النخب سواء اليساري منها والإسلامي، فراح ضحية التهميش وسوء الفهم.

ماهي الأسباب التي جعلت ظاهرة "بن نبي" لا تصنع الحدث اللازم والتأثير الفكري في شخصية المثقف الجزائري؟

يقول المؤلف زكي الميلاد "يعد مالك بن نبي، في نظر الباحثين العرب، من أكثر المفكرين في العالم العربي تمثلًا بابن خلدون من جهة اهتماماته بقضايا العمران، والتمدن، والحضارة". وفي هذا الشأن يرى المفكر الأردني الفلسطيني فهمي جدعان أن مالك بن نبي "أبرز مفكر عربي معاصر عُني بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون".

1- النهج الاشتراكي 

يعتبر الخيار الاشتراكي الذي تبنته الدولة الجزائرية بعد الاستقلال مباشرة، أحد الأسباب الرئيسة وراء انحسار فكر مالك بن نبي لدى نخب قليلة جدًا، حتى إن الندوات الفكرية لتلاميذه العرب والجزائريين، كانت تقام في بيته بوسط الجزائر العاصمة.

وعاد مالك بن نبي إلى الجزائر عام 1963 عقب الاستقلال مباشرة بعد غياب طويل عنها، حيث عُين مديرًا عامًا للتعليم العالي بوزارة الثقافة والإرشاد القومي الجزائري، لكن تحفظاته واعتراضاته على النهج والطريقة التي كانت تسير بها البلاد آنذاك، وخصوصًا ما تعلق منها باتجاه المنحى الاشتراكي، أدّى إلى توقفه واستقالته من المنصب.

وقبل اختيار الاشتراكية كنهج رسمي للدولة الجزائرية من قبل الرئيس الراحل، أحمد بن بلة، وكذلك خلفه هواري بومدين، كان لمالك بن نبي موقفًا سلبيًا من الثورة الجزائرية، يقول عن ذلك عبد السلام هراس أحد المقيمين مع مالك في القاهرة: إنّ بن نبي "أبى أن يكون من الجبهة، واعتقد في رسالة وجهها إلى الرئيس بن بلة بعد الاستقلال، أن الثورة ضمت من كان مع فرنسا، وليس العكس، وحاربوا تحت رايتها لفترة من الزمن".

ولم يكن فقط بن نبي الوحيد الذي رفض الاشتراكية الرسمية للنظام، أو حاول المساهمة في التوجيه ضد ما اعتبره "خطأ ثقافيًا وفكريًا" للدولة المستقلة حديثًا، بل راح ضحية ذلك عدد كبير من المفكرين والسياسيين والأدباء والشعراء والعلماء، من أمثال البشير الإبراهيمي ومحمد شعباني وكريم بلقاسم ومفدي زكرياء وغيرهم.

2- نظرية "القابلية للاستعمار"

قد لا يعرف الكثيرون أن نظرية "القابلية للاستعمار" التي تعد من أيقونات فكر مالك بن نبي، جرّت عليه الكثير من العداوات، إذ يقال إنه بهذه النظرية يُسوّغ للاستعمار الأوروبي في دول العالم الثالث، واضعًا اللوم على الشعوب لـ"قابليتها للاستعمار".

وبهذا الخصوص يذكر، الكاتب الفلسطيني المعروف غازي التـوبة، أن أضعف فكرة في أفكار المفكر مالك بن نبي، هي القابلية للاستعمار التي ارتبطت بسيرورة تاريخية انتهت بنهاية دولة الموحدين حسبه، وقدم صاحب كتاب رؤى وآراء معاصرة عدة اعتراضات على أفكار بن نبي.

ويضيف التوبة "لم يعد الإنسان والتراب والوقت عوامل حضارة، بل أضحت عناصر خامدة ليس بينها صلة مبدعة، وربط مالك بن نبي بين الانحطاط وبين القابلية للاستعمار، فاعتبر أن هذه القابلية عامل باطني يستجيب للعامل الخارجي، وأبرز مظاهر هذا العامل الباطني: البطالة، وانحطاط الأخلاق الذي يؤدي إلى شيوع الرذيلة، وتفرُّق المجتمع الذي يؤدي إلى الفشل من الناحية الأدبية".

3- الخلاف بين بن نبي والدولة

بعد كل ما سبق بدأ يظهر ذلك الخلاف بين مالك بن نبي، ونظرته باتجاه النهج الفكري والثقافي للحكومة الجزائرية، والاتجاه الذي اختاره حزب جبهة التحرير الوطني وقيادة الثورة، في مؤتمر طرابلس عام 1962، ويدعم سفيان لوصيف ذلك في كتابه "السياسة الثقافية في الجزائر" حول الصراع الثقافي واللغوي والفكري بين النخب اليسارية التي ترعرعت في المدرسة الفرنسية، والنخب الإسلامية ذات اللسان العربي، والتي ترعرت في المدرسة العربية، وتلقت تكوينًا دينيًا وفكريًا ولغويًا في المشرق العربي.

وهذا ما جعل دوائر في الحكم تضيق على مالك، إلى درجة التهديد بالعنف، حتى أنه تعرض لاعتداء من مجهولين، بالرغم من الحماية التي كان يتمتع بها من قبل السلطات الأمنية، وتذكر بعض الشهادات أن الزوار الذين يترددون على بيته، لحضور الندوات الفكرية، يتم التدقيق معهم بعناية شديدة.

كما منع الرجل من السفر أكثر من مرة، إلى غاية تدوينه خطاب رسمي سنة 1971 للسلطات، من أجل السماح له ولعائلته بآداء فريضة الحج، وبعد عودته من الرحلة التي دامت شبعة أشهر، تعرض لتضييق شديد وجحود من قبل أجهزة الدولة، ومختلف هيئاتها ورجالها، بعدما تناهى إليها لقاؤه للملك السعودي الراحل فيصل بن عبد العزيز.

4- رفضه للنهج الإصلاحي السائد

كان فكرُه بشكل عام رافضًا لنهج الإصلاح السائد، الذي تبنته جمعية العلماء المسلمين ورواد الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي عمومًا، حيث انتقد في كتابه الآخر كذلك، وجهة العالم الإسلامي، العقلية التجزيئية التي تناولت المشكلات التي يمر بها العالم الإسلامي.

واقترح مالك بن نبي أن تكون الجهود في صورة مذهب مُنسجم، كما اعترض على انتهاجها سياسة علاج العرض، والذي هو "التخلف والاستعمار"، بدلًا من التركيز على المرض وفقًا له، وهو "القابلية للاستعمار والابتعاد عن الفعل والسلوك الحضاري"، وقد جرّ عليه هذا الاختلاف ممارسات إقصائية وتهميشية من قبل الكثير من دعاة المذهب الأول .

وانعكست هذه الأفكار على علاقته بالتنظيمات والهيئات التي استمرت إلى الآن في صناعة الحراك الثقافي والفكري بالبلاد، ولم يعد الميراث الثقافي والفكري لبن نبي متاحًا بين أنصار الحركة الإسلامية، سواءً الإصلاحية أو السياسية، من جوهر اهتماماتها، واتجهت إلى المشرق بمختلف مدارسه من أجل النهل من برامجها.

يقول عويمر عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين "رغم انتقاد بن نبي للغرب ووجهه الاستعماري، وكشفه خلفيات الصراع الفكري مع الغرب الرامي إلى تعطيل المشروع الحضاري الإسلامي، فإنه أنصف الغرب في أحكامه، فلم ينكر دوره وإسهامه في البحث العلمي وتوفير أسباب الراحة المادية للبشرية، ولم يرَ مانعا من التعاون مع الغرب على قاعدة الاحترام المتبادل".

مالك بن نبي ابن قسنطينة (الجزائر)، ولد أول يناير/كانون الثاني 1905 ورحل في 31 أكتوبر/تشرين الأول 1973. وهو من رواد النهضة الفكرية الإسلامية، وأول من حدد قواعد الإصلاح بالاعتماد على علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ.

من مؤلفاته: شروط النهضة (1948)، وجهة العالم الإسلامي (1954)، آفاق جزائرية (1964)، الإسلام والديمقراطية (1968)، المسلم في علم الاقتصاد (1972).

كان يكتب أيضاً باللغة الفرنسية، وعاش مهمشا في بلده، لذا قال قبل وفاته "سأعود بعد ثلاثين سنة وسيفهمني الناس".

المصادر: sasapost / aljazeera / wikipedia