هل يمكن اكتساب العبقرية أم أنَّها وراثية جينية بحتة ؟

رغم أنه ليس للعبقرية تعريف دقيق، لكن جمعية منسا الدولية (الموجودة في أكثر من 80 دولة وتضم قرابة 100 ألف عضو يُشترط فيهم أن يكونوا قد خاضوا اختبارًا للذكاء) تُعرِّف العباقرة بأنهم الأشخاص الذين يمتلكون القدرة والإبداع الكافيَين لوضعهم ضمن نسبة الاثنين في المئة (2%) الأفضل على مستوى العالم.

العبقرية

وفي الواقع لا يمكن أن نقيس الذكاء بشكل كمي طبقًا لعدد الخلايا العصبية الموجودة في المخ مثلاً، لكن تبقى اختبارات مقياس الذكاء IQ التي وضعها "ألفريد بينيه" عام 1904، هي الأداة الأكثر شيوعًا.

فإذا كان ذكاء الإنسان يتأرجح بين 46 و160 على مؤشر القياس النفسي، فإننا نتحدث عن مستويات عالية من الذكاء بدءًا من 130 وفقًا للمعيار العالمي ( هناك دول مثل فرنسا تعتبر الإنسان عبقريًّا إذا ما بلغت درجاته 125). وبناء على نتائج تلك الاختبارات، فإن هناك طفلًا واحدًا فقط لكل 100 ألف يبلغ مستوى ذكائه على الاختبار النفسي 160.

هل الذكاء وراثي ؟

إن الذكاء ليس فقط ما تقيسه الاختبارات، لكنه يكمن أيضًا فيما لا تقيسه. فقوس قزح الذكاء لا يشمل طيفًا واحدًا، ولكن هناك 9 ألوان متباينة من العبقرية: فقد يكون ذكاءً موسيقيًّا مثل ذكاء "موتسارت" الذى ألف أول مقطوعة موسيقية عن عمر أربعة سنوات، أو عبقرية علمية مثل "آلبرت آينشتاين"، أو أخرى في العلاقات البشرية كذكاء "مهاتما غاندي"، أو ذكاءً حركيًّا مثل "مارسيل مارسو" لاعب البانتوميم، أو ذكاءً لغويًّا مثل "توماس إليوت"، أو قدرة خارقة على فهم الذات مثل التي تمتع بها "سيجموند فرويد"، أو ذكاءً وجوديًّا مثل "ونستون تشرشل"، على حد تعبير هوارد جارنر، الباحث في مجال التعليم بجامعة هارفارد الأمريكية.

لكن السُّؤال الذي يطرح نفسه: هل من الممكن الوصول إلى العبقرية عبر التنشئة الاجتماعية؟ أم أنَّ المسألة تعود لعوامل وراثية جينية؟

تلك المعضلة التي طالما أثارث فضول العلماء وحفزتهم لإجراء المزيد من البحث والتقصي. ففي دراسة حديثة، أجراها الباحثون في كينجزكولدج لندن  King's College London ونُشرت في مجلة الطب النفسي الجزيئي Molecular Psychiatry تؤكد وجود جين متصل بشكل مباشر بعامل الذكاء يُطلَق عليه NPTN، يؤدي دورًا في سُمك المادة الرمادية المرتبطة بالقدرات الفكرية.

فقد قام الفريق البحثي البريطاني بتحليل عينة من الحمض النووي (DNA) واستخدام تقنية الرنين المغناطيسي على مخ 1583 من الأطفال البالغة أعمارهم 14 عامًا، كما أجروا عددًا من الاختبارات لقياس الذكاء الشفهي وغير الشفهي، مستخدمين 5400 متغير وراثي، تؤدي دورًا أساسيًّا في النمو العقلي. وقد لحظ العلماء أن الأطفال الأذكياء كان لديهم قشرة أقل سُمكًا في نصف المخ الأيسر، وبصفة خاصة في الفص الصدغي والأمامي.

وأُطروحة أخرى أُجريت في كلٍّ من جامعتي كامبردج ودوسلدورف، أكدت وجود العامل ( general intelligence factor). الذي قد يكون مركز الذكاء والقابع في قشرة الفص الصدغي.

لكن فرضية أنَّ الذكاء وراثي ما زالت تثير لغطًا شديدًا لنسبة كبيرة من العلماء في الأوساط العلمية، لا سيما وأن أسرار العقل ما زالت تحتاج إلى جهود كثيرة لتفسير الكيفية التي تعمل بها المناطق المخية المختلفة والتوافيق الخاصة بالإمكانيات البشرية، أي القدرة على استخدام إمكانيات المخ المختلفة معًا أو بكيفيات مختلفة، والآليات التي تتيح للعقل التجول من منطقة ذكاء إلى أخرى. أو بصيغة أخرى تحفيز منطقة وتثبيط أخرى وفقًا لما تستدعيه الظروف والتحديات، على حد تعبير الباحث "أوليفيه أوديه"، أستاذ علم النفس المعرفي بجامعة باريس.

ومن أجل سَبْرِ أغوار عالم المخ الغامض، يسعي فريق للترويج لفرضية أن الذَّكاء ليس مكتوبًا في الجينات لكنه قد يكون صناعة بشرية. ويُعَد "بولجار لاسلو" - عالِم النفس المجري- أحد المؤمنين بأننا لا نولد عباقرة لكننا من الممكن أن نصبح كذلك.

يحكي لاسلو تجربته الشخصية التي عرضها من خلال كتابه "ازرعوا العبقرية" عن مشروعه البحثي الذي بدأه منذ أكثر من أربعين عامًا. عندما نشر لاسلو إعلانًا يطلب شريكة حياة تخوض معه تلك التجربة، والتي لاقت قبولًا لدى كلارا، معلمة من أصل مجري أيضًا تعيش في أوكرانيا.

وقد رأت ابنتهما الأولى النور في عام 1969 ثم لحقت بها اثنتان من شقيقاتها. بدأ الثنائي في تنفيذ المشروع عبر إعطاء الأطفال تعليمًا منزليًّا، إذ أراد الأب أن يصبحن عبقريات في الرياضة أو الموسيقي. لكن كلًّا من سوزي وصوفيا وجودي - البنات الثلاث اللاتي يُجدن التحدث بأكثر من أربع لغات- فضلن المربعات البيضاء والسوداء على السلم الموسيقي ودهاليز الجبر والتفاضل.

ورغم أن لعبة الشطرنج كانت حكرًا على الرجال فقد فتحت سوزي الباب لأخواتها، ليس فقط لمناطحة لاعبي الشطرنج المحترفين، ولكن للصعود على المنصات العالمية بعد إنجازات مهمة في لعبة الأبيض والأسود. فاذا كانت صوفيا تلقب اليوم بموتسارت اللعبة، فإن جودي التي وصفها كاسبروف -بطل العالم الحالي- بالمنافس العتيد تقول: "سأصبح في غضون عامين بطلة العالم"، هكذا تتوعد جودي الابنة الصغرى التي ترى أن مباراة النساء ليست هدفها، " فالذكاء ليس له جنس"، على حد تعبير آخر العنقود في تلك الأسرة التي درست ميول بناتها وحرصت على أن توجههن في اتجاه تنمية الموهبة، إذ كرَّس الأب من 5 إلى 8 ساعات يومية كي تتعلم بناته اللعبة.

العبقرية والأسرة

العبقرية

تتوجه الكاتبة الهندية شاكونتا لاديفي في كتابها "أيقظي العبقرية" للأم بصفة خاصة، حيث تهمس في أذنها بقاعدة أساسية من أجل تفريخ عبقري، "أريد الأفضل لطفلي، إذًا يتوجب عليَّ أن أعطيه أفضل ماعندي"، ثم تضيف المؤلفة: احتفظي بهذا المبدأ الأساسي في نفسك وفي قلبك، ردديه في كل فرصة ممكنة، طبقيه في حياتك، استعمليه لتهيئي جوًّا منشطًا يساعدك على مضاعفة ثقتك في طفلك.

بهذه القاعدة الصحية لن تفشلي مطلقًا في تغذية ذكائه وتفجير عبقريته. فالطرائق الملائمة واللامتناهية في إكساب الطفل المعرفة عبر يوميات الحياة العادية هي أكثر بكثير مما نظن، ولها تأثير إيجابي يحقق نتائج مذهلة.

وهي طرق -وفق المؤلفة- تحتاج إلى حس مرهف وذكاء ودقة ورصد من قِبَل الأم تجاه حركات طفلها التي تلاحظها كل يوم. ذلك أن فلسفة المؤلفة في جدوى ذلك التعلم تنطلق من قناعة عميقة بأن نشأة الطفل وبدايات حياته هي عملية متواصلة من الاكتشافات وحب المعرفة والاستمتاع بذلك، والانتباه إلى كل جديد في كل يوم يمر به من مراحل نموه.

فالحياة تبدو للطِّفل في كل يوم مغامرة سحرية، ومن ثَم انتهاز تلك الفرص للإجابة عن أسئلته وملاحظة طريقته في التعبير واختيار الموقف المناسب لتنبيه حواسه واختيار القصص له عبر تجاربه وألعابه المختلفة.

خلاصة:

الجينات لا تجعلك ذكيا ،لكنها تجعلك أكثر استمتاعاً بالتعلُّم ،ولأنك تستمتعُ بالتعلم فإنك تقضي وقتا أكبر فيه، وتصبح أكثر ذكاءً عن طريق السعي والبحث عن التأثيرات البيئية التي تُشبع ميوله ،وتعملُ البيئة كمضاعف للاختلافات الجينية الصغيرة ،ومن ثمّ تدفع الأطفال الرياضيين إلى الرياضة التي تكافئهم ،وتدفعُ الأطفال الأذكياء نحو الكتب التي تكافئهم.. وهكذا   

المصادر: scientificamerican / real-sciences