"الحضارة الغربية" .. مصطلح لا أصل له !

يعتبرُ الفيلسوف الأميركي كوامي انثوني أبيا، الذي وُلد في بريطانيا وينحدر من غانا الإفريقية، أن "الحضارة الغربية"، معتبراً أن لا وجود تاريخياً لها، وأن العالم كله تناقل عبر القرون "إرثاً ذهبياً" بدأ مع الإغريق ثم الروم ثم المسلمين وصولاً إلى تاريخنا المعاصر.

الحضارة الغربية

وسنرجع للوراء قليلا ونستعرض تاريخ الحضارات حتى نعرف حقيقة الحضارة الغربية ..
1- الإغريق

 الإغريق

بالنسبة للمؤرخ الإغريقي هيرودوت، وما كتبه في القرن الخامس قبل الميلاد، فإن العالم كان مقسماً إلى ثلاثة أجزاء، في الشرق كانت آسيا، في الجنوب كانت قارة سماها ليبيا، والجزء المتبقي كان أوروبا.

علم هيرودوت أن البضائع والأفكار يمكنها التنقل بسهولة بين القارات: فقد سافر بنفسه عن طريق النيل حتى أسوان، وعلى جانبي الدردنيل، الفاصل القديم بين أوروبا وآسيا، ويعترف بأنّه تحيّر في فهم "لِمَ الأرض، وهي واحدة، لديها ثلاثة أسماء، كلهنّ لإناث"، لكن، على الرغم من حيرته، هذه القارات كانت بالنسبة للإغريق وورثتهم من الرومان أكبر انقسامات جغرافية في العالم.

لكن، هنا نقطة مهمة: لم يكن ليخطر ببال هيرودوت أن الأسماء الثلاثة ترجع إلى أنواعٍ ثلاثة من الناس، هُم: الأوروبيون، والآسيويون، والأفارقة.

استخدم هيرودوت كلمة "أوروبي" لوصف شيء ما، لا للإشارة إلى أشخاصٍ، وحتى بعد ألف عام من موته، لم يكُن أحدٌ يتحدَّث عن الأوروبيين بصفتهم شعباً أيضاً.

2- الإسلام وفتوحات الغرب

الإسلام وفتوحات الغرب

ثم أعاد الإسلام تشكيل الجغرافيا التي عرفها هيرودوت جذرياً، بعد وفاة النبي محمد عام 632، نجح العرب في غضون 30 عاماً فقط في هزيمة الإمبراطورية الفارسية التي توسعت في آسيا الوسطى حتى وصلت إلى الهند، وفي انتزاع الأقاليم من بقايا روما في بيزنطة.

استمرت الدولة الأموية، التي بدأ حُكمها عام 661م، في فتوحاتها للغرب حتى وصلت شمال إفريقيا وفي الشرق حتى آسيا الوسطى، خضعت شبه الجزيرة الإيبيرية للحكم الإسلامي، قبل أن تعود للمسيحيين عام 1492، أي بعد ما يقرب من 800 عام.

لم يخطط الفاتحون المسلمون لإسبانيا للتوقف عند جبال البيرنيه، وحاولوا في السنوات الأولى التحرك شمالاً، ولكن بالقرب من مدينة تور، في عام 732 ميلادياً، هزم شارل مارتل، جيوش الأندلس، وأدت هذه المعركة الحاسمة إلى إنهاء المحاولات العربية لغزو أوروبا.

لاحظ مؤرخ القرن الثامن عشر إدوارد جيبون أنه إذا فاز العرب بمدينة تور، كان بإمكانهم الإبحار في نهر التايمز ببريطانيا. 

وفي التاريخ اللاتيني، الذي كُتب عام 754 بإسبانيا، يشير المؤلف إلى المنتصرين في معركة تور بكلمة "Europenses"، أي الأوروبيين. إذاً، ببساطة، استخدمت فكرة "الأوروبي" لأول مرة للتفريق بين المسيحيين والمسلمين، ففي منتصف القرن الثامن لم تكن غالبية أوروبا مسيحية بعد.

3- الأوروبيون والغرب

لم يستخدم أحد في أوروبا القرون الوسطى وصف "غربي"، السبب الأول: هو أن سواحل المغرب تمتد حتى غرب إيرلندا، والسبب الآخر: أنه كان هناك حكام مسلمون في شبه الجزيرة الإيبيرية -جزء من القارة التي سماها هيرودوت أوروبا- حتى القرن الـ16 تقريباً، لم يكن التناقض الطبيعي بين الإسلام والغرب، بل بين المسيحية والإسلام.

بدءاً من أواخر القرن الـ14، امتد حكم الأتراك الذين بنوا الإمبراطورية العثمانية، تدريجياً في أجزاء من أوروبا، وهي بلغاريا واليونان والبلقان والمجر، ولم تبدأ استعادة أوروبا الشرقية سوى في عام 1529 مع هزيمة جيش سليمان القانوني في فيينا، تلتها المجر وبلغاريا.

منذ نهاية العصور الوسطى وحتى الآن، ينظر البعض إلى إبداعات الحضارة الإغريقية والرومانية على أنها إرث حضاري، مُرر كأنه قطعة ذهبية ثمينة استخرجها الإغريق من باطن الأرض، ثم انتقلت بعد غزو الإمبراطورية الرومانية الأراضي الإغريقية إلى روما.

تفرق هذا الإرث الحضاري بين بلاد الفلمنك وفلورنسا وجمهورية البندقية إبان عصر النهضة، وانتشرت بقاياه في بعض المدن مثل أفينيون وباريس وأمستردام وفايمر وإدنبره ولندن، وجُمع أخيراً في أكاديميات أوروبا وأميركا.

الثقافة الإسلامية

الثقافة الإسلامية

هذا الإرث الكلاسيكي كان مشترَكاً مع الثقافة الإسلامية، ففي بغداد عاصمة الخلافة العباسية في القرن التاسع، قدمت مكتبة القصر أعمال أفلاطون وأرسطو وفيثاغورس وإقليدس مترجمة إلى اللغة العربية.

وفي القرون التي أطلق عليها العصور المظلمة، أسهمت أوروبا المسيحية بقدر ضئيل في دراسة الفلسفة اليونانية القديمة، وعندما ضاعت الكثير من النصوص القديمة، حافظ علماء المسلمين عليها.

حرَّضت معركة تور الأوروبيين على الإسلام، ولكنَّ المسلمين في الأندلس، لم يعتقدوا أن القتال من أجل الأرض يعني عدم تبادل الأفكار. فبحلول نهاية الألفية الأولى، تميزت مدن خلافة قرطبة بالتعايش بين اليهود والمسيحيين والمسلمين من البربر والقوطيين الغربيين والصقالبة والأعراق الأخرى التي لا تُحصى.

أصبحت قرطبة واحدة من أعظم مراكز المعرفة الطبية في أوروبا، ومثلت الترجمة اللاتينية لأعمال ابن رشد -الذي وُلد بقرطبة في القرن الثاني عشر الميلادي– إعادة اكتشاف أوروبا لأرسطو، وقد اشتهر ابن رشد باسم "أفيروس" عند الإفرنج أو بشكل أكثر شيوعاً باسم "الشارح" بسبب شروحاته لأرسطو،

لذا، فإن التقاليد الكلاسيكية التي من المفترض أن تميز الحضارة الغربية عن ورثة الخلافة الإسلامية هي في الحقيقة نقطة تجمع بينهما.

افترض الناس أن الهوية التي يكتب لها النجاة عبر الزمان والمكان لا بد أن تُدفع بواسطة جوهر قوي مشترك، ولكن هذا خطأ ببساطة، يمكننا تخيل كيف كان شكل إنكلترا في عهد تشوسر الملقب بأبو الأدب الإنكليزي الذي توفي قبل أكثر من 600 عام. ومهما كان مزيج التقاليد والأفكار والأشياء المادية التي صنَعت لإنكلترا إنكليزيتها، فلن يكون أي منها مطبَّقاً الآن.

كيف ظهرت مملكة ندعوها "الغرب"؟

من المفيد الاعتراف بأن مصطلح "الثقافة الغربية" حديث جداً، أحدث حتى من الفونوغراف، وبالتالي فإن مفهوم "الغرب"، كتراث حضاري وموضوع للدراسة، لم يظهر حقاً حتى تسعينات القرن التاسع عشر، في أوج الحقبة الاستعمارية، ثم حقق انتشاراً أوسع في القرن الـ20. 

وإذا كانت فكرة "الأمة المسيحية" أثراً لصراع عسكري طويل الأمد ضد القوى الإسلامية، فقد وصل المفهوم الحديث لـ"الثقافة الغربية" إلى شكله الحالي خلال الحرب الباردة.

تدهور أم تطور؟

فكيف قمنا بسد الهوة إذاً؟ كيف استطعنا أن نقول لأنفسنا إننا ورثة أفلاطون عندما يكون محور اهتمامنا هو بيونسيه وبرغر كينغ؟ من خلال دمج النموذج "التايلوري" مع النموذج "الأرنولدي"، عالم الحياة اليومية مع عالم المثل.

إسبانيا، في قلب "الغرب"، قاومت الديمقراطية الليبرالية جيلين بعد انطلاقها بالهند واليابان في "الشرق"، معقل الاستبداد الشرقي.

ميراث جيفرسون الثقافي -الحرية الإثينية والأنكلوسكسونية- لم يمنع الولايات المتحدة من إنشاء جمهورية الرقيق، قد تجد موسيقى الهيب هوب في شوارع طوكيو، وينطبق الشيء نفسه على المطبخ: البريطانيون استبدلوا الأسماك والبطاطا بدجاج تيكا ماسالا الهندية.

لن يوقف جوهر المسلم من سكان مدينة دار السلام عاصمة تنزانيا عن تبني أي جانب من جوانب الحضارة الغربية، كما لا يوجد "جوهر غربي" يستطيع منع أي من سكان نيويورك، مهما كانت أصوله، من اعتناق الإسلام.

القيم ليست حقاً مكتسباً، فهي تحتاج إلى الرعاية باستمرار، والعيش في الغرب لا يقدم أي ضمانة على تبني الحضارة الغربية. تنتمي القيم التي يحلو للإنسانيين الأوروبيين تبنيها، بنفس القدر إلى أي إفريقي أو آسيوي يتبناها بحماسة، من خلال هذا المنطق ذاته، بطبيعة الحال، فهي لا تنتمي إلى الأوروبيين الذين لم يبذلوا جهداً لفهمها واستيعابها، والشيء نفسه صحيح في الاتجاه الآخر.

تخص التقاليد "الغربية" من يهتم بها، وثقافة الحرية والتسامح والتفكير العقلاني قيم تمثل خيارات يحق للمرء أن يتبناها، وليست مسارات وُضعت كـ"مصير غربي".

والثقافة توفر مصدراً للهوية، وقد تصبح شكلاً من أشكال التقييد، أو الأخطاء المفاهيمية التي تدعم الأخطاء الأخلاقية، ويمكن أن تحدد ملامح حريتنا.

يوجد نحو 7 مليارات بشري على كوكب صغير، تتزايد درجة حرارته، ولم يعد الدافع العالمي الذي يحض على وصل إنسانيتنا المشتركة ترفاً، بل أصبح ضرورة.


كما كتَبَ "تيرينيس الإفريقي" ذات مرة: "أنا إنسان، وأعتقد أن كل البشر ليسوا غرباء عني"، هذه هي الهوية التي تستحق أن نتمسك بها لأن هدف وجودنا على الأرض واحد والتعارف بين الناس سنة الله في خلقه.

المصدر: هنــا