البراعة اليابانية .. كيف حققت اليابان المعجزة وصارت قوة عالمية ؟

السلام عليكم ورمة الله وبركاته .. هل يتبادر إلى ذهنك سؤال عن كيف أصبحت اليابان على ما هي عليه الآن ؟! .. تابع قراءة هذه اللمحة التاريخية لتفهم الأمر ... 

كيف حققت اليابان المعجزة

على مشارف نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع انهيار ألمانيا النازية ودخول أربع دول بشكل رئيسي إليها ليقسموا كعكة برلين (فرنسا/ بريطانيا/ الولايات المتحدة/ الاتحاد السوفيتي)، ووقوع الصين بشكل أساسي تحت مطرقة الشيوعية، مع كل ذلك لم يتبق إلا اليابان كدولة شديدة الخصوصية ينبغي السيطرة عليها، في هذا الوقت وضعت الولايات المتحدة كل ثقلها الحربي في اليابان لتتسبب في أكبر مجازر حربية في التاريخ الحديث!

في البدء كان القصف الجوي المكثف على كل المدن اليابانية والذي تركز في شرق طوكيو متسببًا في مقتل مائة ألف ياباني مع تشريد مئات الآلاف الآخرين، ثم كانت قنبلة هيروشيما كأول تجربة أمريكية لسلاحها الذري الوليد والتي تسببت في مقتل مائة وعشرين ألفًا فورًا مع إصابة مئات الآلاف الآخرين، ثم تجربة نوع آخر على ناجازاكي ليُقتل ستون ألفًا على الفور أيضًا، كل ذلك كان شيئًا أقل مما فعلته الولايات المتحدة متبعة إحدى إستراتيجيتين لهزيمة الجيش الياباني عندما فرضت حصارًا بحريًا شاملًا على الدولة وهو السبب الرئيسي المؤدي لانهيار الاقتصاد الياباني حينها.

وهذا ما تسبب في نقص حاد في الإنتاج والسلع والغذاء مما أنذر بمجاعات واسعة النطاق تتسبب في هلاك مئات الآلاف، انتشرت الأسواق السوداء مع ارتفاع هائل في الأسعار، ثم زادت الولايات المتحدة بتسريح الجيش الياباني بالكامل مما أدى إلى وجود ما يقارب الخمسة ملايين عاطل بجوار الآخرين، والعدد النهائي الذي كان مطلوبًا من الدولة اقتصاديًا استيعابه هو عشرة ملايين عاطل.

البراعة اليابانية

قبل الهزيمة بشهر كان هناك شابان مسئولان منفصلان تمامًا عن الواقع، اليابان تنهار والولايات المتحدة توشك على دكها بالكامل والأرض الطيبة تتحول لأرض رعب مقيم، لكن الشابين وسط كل ذلك كانا يفكران في أشياء أخرى أهم ألف مرة.

قبل شهر من الاستسلام رأى (سابورو أوكيتا ويونوسوكي جوتو) أن الهزيمة آتية لا محالة وستجلب معها انهيارًا اقتصاديًا لا مفر منه، كان الاثنان يعملان مهندسيْ كهرباء في العاصمة الصينية بكين، لكنهما عندما شاهدا ما يحدث عادا إلى طوكيو ليبدآ التحضير لجلسات نقاشية أولية يتم فيها وضع خطة لتجاوز ما سيحدث اقتصاديًا، عقد الاجتماع الأول يوم 16 أغسطس لعام 1945 (بعد الهزيمة بيوم واحد فقط)، وفيه تمت مناقشة اتفاقية بريتون وودز التي كانت وقعت قبل الجلسة بعام في الولايات المتحدة ونتج عنها تثبيت الدولار كعملة قياسية وإنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

بمرور الوقت تحولت الجلسات من جلسات خاصة لجلسات عامة يحضرها أكاديميو وسياسيو اليابان لمناقشة إعادة الإعمار، وتولى أوكيتا وجوتو مهمة تلخيص نقاط كل جلسة نقاشية وتحويلها لتقرير كامل، بعد فترة أخرى تبنت الحكومة الجلسات رسميًا وضمتها وزارة الخارجية إليها تحت مسمى (لجنة المسح الخاصة).

في أواخر عام 1945 ظهرت المسودة الأولى لتقرير الجلسات الشامل، ثم ظهرت المسودة النهائية في مارس من 1946، ثم خضعت لتعديلات لتظهر نسخة التقرير النهائية في سبتمبر من نفس العام وكان عنوانها (المشكلات الأساسية لإعادة إعمار الاقتصاد الياباني)، تناول التقرير المشكلات والتحديات التي تواجه الاقتصاد مع توصيف دقيق جدًا للوضع الداخلي، ثم وضع إستراتيجية عامة لمواجهة كل المشكلات، ثم في مرحلة التقرير الثالثة وضعت توصيات التحرك لإعادة الإعمار بالتفصيل، مثل التقرير مثالًا بليغًا متداولًا حتى الآن على العقلية اليابانية الخلاقة، ومازالت اليابان تعمل ببعض توصياته الاقتصادية حتى لحظتنا هذه!

كان أمام الشعب الياباني وحكومته خيارات قليلة جدًا وبديهية للتعامل مع الوضع، تخفيض قيمة العملة بشكل حاد، أو التقشف وانكماش الاقتصاد بالتالي، لكنّ اليابانيين اختاروا طريقًا ثالثًا بالغ الصعوبة وهو (تحسين الإنتاجية) مع استثمار فائق في القطاع التكنولوجي لمضاعفة الإنتاجية كمًّا مع هدف زيادة الجودة.

جزء كبير من التطور أيضًا يرجع للعام 1949 حيث تم دمج ثلاثة كيانات هم (وكالة الفحم، ووزارة التجارة والصناعة، ووكالة التجارة الدولية) ليظهر للنور كيان جديد هو (MITI) أو وزارة التجارة الدولية والصناعة التي ساهمت بشكل كبير في إعادة هيكلة الصناعات اليابانية بتعاون وثيق نادر بينها وبين القطاع الخاص ودفع هذه الصناعات وصولًا إلى منافسة الولايات المتحدة مباشرة.

عبقرية الـMITI تمثلت في إستراتيجيتها العامة التي اعتمدت بشكل رئيسي على الانتقائية، فكان الدعم الوثيق للسياسات الصناعية قائمًا على مفاضلة دقيقة بين الصناعات اليابانية المختلفة وقياس اتجاه العالم ثم دعم الصناعات المتوقع ارتفاع الطلب عليها كل عشر سنوات، ولذلك اهتمت الوزارة بشكل كامل بالصناعات الثقيلة والصناعات التكنولوجية والتقنية وقطاع الكهرباء والنقل، ما ساهم فيما بعد في خلق بنية تحتية أدت إلى ما نراه في اليابان اليوم.

متوسط دخل الفرد الياباني عندما بدأت طوكيو عصر نموها في 1950 كان 1/14 من متوسط دخل الأمريكي، أي أن الولايات المتحدة كانت تتقدم على اليابان بـ14 ضعفًا، نسبة مهولة جدًا، بعد عشر سنوات وفي 1960 انخفضت النسبة وأصبح متوسط دخل المواطن الياباني سنويًا 1/6 من متوسط دخل الأمريكي، ثم بعد عشر سنوات أخرى أصبح متوسط دخل الياباني 1/2.5 من متوسط دخل الأمريكي في 1970!

بعد العام 1970 كانت اليابان قد حققت جزءًا كبيرًا من طموحها فيما يخص العالم الغربي، تجاوزت الفجوة وانتقلت من كونها دولة مستوردة للتكنولوجيا لدولة مصنعة لها، كان هذا أحد أهم أسباب التباطؤ، لأنه أثناء عملية اللحاق بالركب المتقدم يمكنك أن تستورد دائمًا النظم الجديدة والتكنولوجيا الغربية، لكن عندما تصبح جزءًا من هذا العالم لا يمكنك إلا أن تبدأ في تطوير المسار الخاص بك وابتكار تكنولوجيا جديدة، لن تستطيع أن تنسخ الآخرين مرة أخرى.

بعدها جاءت فترتان من الضعف الاقتصادي على اليابان في عشر سنوات فقط، إحداهما في 1974 والأخرى في 1979، الفترتان كانتا بسبب النفط وارتفاع سعره في الأولى من 2 إلى 11 دولارًا للبرميل الواحد وفي الثانية إلى 30 دولارًا للبرميل الواحد، وبسبب أن اليابان دولة مستوردة للنفط بنسبة 99.7% كانت الأزمة.

في المرة الأولى حدث ذعر استهلاكي وفرغت رفوف المحلات ونشط الاحتكار ومعه الأسواق السوداء، وسجلت اليابان حينها أول معدل نمو بالسالب (-0.8%)، العبقرية اليابانية تجلت في الخروج من كل ذلك بأقل الأضرار الممكنة، واتباع إستراتيجية تقتضي ترشيد استهلاك الطاقة بشكل لا يجعلها ثغرة في الجدار الحديدي الياباني مرة أخرى، فاتخذت الحكومة إجراءات للتحكم في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، وأطلقت حملة قومية شاملة لتغيير سلوك الشعب فيما يخص الاستهلاك، وشجعت عمالقة الصناعة على أن يتجهوا لابتكار مصادر أوفر، ويتضح هذا في مثال هوندا الذي سبق العالم بأكمله لاختراع أول محرك سيارات صديق للبيئة وموفر للطاقة بدعم من الحكومة متقدمًا على فورد وجنرال موتورز الأكثر تطورًا في العالم حينها، بمرور الوقت تحول توفير الطاقة في اليابان لسلوك عام ونشاط اقتصادي مربح، لتأتي الأزمة الثانية في عام 1979 فتمر على اليابان بشكل طفيف جدًا غير مؤثر ومعدل تضخم قليل ومعدل نمو مستمر ومقبول.

الفترة من عام 1990 وحتى 2001 كانت أشبه بتحدٍّ بين الولايات المتحدة واليابان، دخلت طوكيو في هذه الفترة ما يسمى بـ(عصر الفقاعة) أو (العقد المفقود) حيث انخفضت قيمة الين ومعه معدل النمو ودخل الاقتصاد الياباني في مرحلة طويلة من الركود والتقلبات المالية لكنه خرج بتوازن وبلا انهيار لقوة البنية الاقتصادية.

اليابان قوة إقتصادية عالمية 

كيف حققت اليابان المعجزة

حتى وصلت إلى ماهي عليه الآن ...

1- الاقتصاد الثالث عالميًا بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين بدخل قومي يبلغ (4.901 تريليون دولار).
2- الثالثة على العالم في تصنيع السيارات ومع ذلك تمتلك الشركة الأكبر عالميًا في المجال (تويوتا).
3- الأولى عالميًا في صناعة الإلكترونيات.
4- الدولة الدائنة الأكبر في العالم (الأكثر إقراضًا للدول الأخرى).
5- والدولة الثانية الأكبر في العالم امتلاكًا للأصول المالية "سندات/ أسهم/ ودائع بنكية" بقيمة (14.6 تريليون دولار) بعد الولايات المتحدة وبما يوازي حجم الأصول المالية لكندا وبريطانيا وألمانيا مجتمعين وثلاثة أضعاف الأصول المالية الصينية!

6- كما تمتلك اليابان بمفردها 57 شركة في نادي الـ500 شركة الأغنى والأكبر على سطح الأرض.
7- تنفق على البحث العلمي والتقني ما يزيد عن 150 مليار دولار سنويًا (المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالكامل).
8- المركز الرابع عالميًا كأفضل بيئة موائمة للابتكار.
9- تمتلك أكثر شبكة قطارات تقدمًا في العالم.
10- وثالث أفضل نظام تعليم أساسي عالميًا بتعداد نقطي بلغ 99.9 نقطة.
11- وهي الدولة الأفضل في خدمة العملاء في أي مجال بحسب تقرير التنافسية العالمية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي.
12- تمتلك العدد الأكبر من المهندسين والتقنيين نسبة إلى عدد السكان بعد الولايات المتحدة وإسرائيل، والثانية بعد الولايات المتحدة في نسبة إنفاق الشركات على البحث العلمي.

المصادر : 1 : الاقتصاد السياسي للتنمية في اليابان -دراسة في تحليل أسباب النهضة -
 2