انتقاد العظماء الناجحين .. ثمن العظمة !

منذ سنوات خلت حدثت ضجة كبرى في الدوائر العلمية بأمريكا ، امتد الجدل و النقاش فيها إلى صفحات الجرائد و الصحف ..


انتقاد العظماء الناجحين


و ذلك حينما عيّن شاب في الثلاثين من عمره يدعى " روبرت هاتشنسون " مديرا لجامعة شيكاغو ، و هي أكبر الجامعات في أمريكا ، فهب كثيرون من كبار العلماء يستنكرون هذا التعيين ، و يوجهون إلى المدير الشاب أعنف النقد و التجريح ، لم يكفيهم أن اتهموه بأن أفكاره صبيانية تافهة لحداثة سنّه و قلة تجاربه ، بل أضافوا إلى ذلك كثيرا من السخرية بنشأته المتواضعة إذ كان قبل ذلك بعشر سنوات فقط خادما في جامعة " ييل " ..

" و حدث في الاحتفال الذي أقيم لمناسبة تعيين هاتشنسون  مديرا لجامعة شيكاغو ، أن كان أبوه جالسا مع أحد أصدقائه بين الحاضرين ، فهمس إليه صديقه هذا قائلا : 
" مسكين ابنك . إن صحف اليوم تضمنت مقالات و أحاديث طلها سب و إهانة و تعريض بماضيه ".

فقال الأب في هدوء : " لقد قرأتها ، و لاشك أنها تضمنت نقدا لاذعا و اتهامات قاسية و لكن هذا كله لا يهم ، لأنه ثمن العظمة يا سيدي ، و كلما غدا المرء أكبر شأنا زادت رغبة الناس في نقده ، و في ترويج الشائعات الباطلة عنه " .

و يحكى أن دوق ويندسور – ملك ادوار الثامن سابقا – رآه عميد الكلية الحربية ( بديفونشير ) يوما يبكي وحده عقب التحاقه بها ، و هو في الرابعة عشر من عمره ، فلما سأله عن سر بكائه ، علم منه بعد الإلحاح ، أن ثلاثة من زملائه في الكلية ، قابلوه متفرقين منذ قليل ، و ركله كل منهم بقدمه لغير ما سبب .
و دعا العميد أولئك الطلبة الثلاثة المعتدين ، و ما زال يهم حتى صارحوه بسر اعتدائهم الذي لا مبرر له على الأمير ، و هو أنهم اتفقوا فيما بينهم على ذلك ، لكي يستطيعوا فيما بعد و حين يصير الأمير ملكا و إمبراطورا .. أن يقولوا صادقين : أنهم ركلوه بأقدامهم.

و الواقع أن أكثر من يعتمدون النقد و الإيذاء لغير ما سبب ظاهر ، إنما يفعلون ذلك مدفوعين بشعورهم الباطن بأن هذا يرفع من شأنهم ، لاعتقادهم أن المعتدى عليه إنسان ناجح جدير بلفت الأنظار إليه. 

المتعة في السب و الشتم

و كثيرون هم الذين يجدون لذة و متعة طبيعيين في قيامهم بسبّ من يفوقونهم في العلم و المال أو المركز ، و في ترويج الشائعات المختلفة عنهم . و قد تلقيت أخيرا من سيدة معروفة كتابا وجهت فيه أفحش السباب إلى أحد رؤساء الجمعيات الخيرية ، و اتهمته بأنه سرق ثمانية ملايين دولار من التبرعات التي جمعها ليساعد بها الفقراء . 
و لم أشك في بطلان هذه التهمة و سخافتها ، إذ كنت على معرفة تامة برئيس الجمعية المذكورة ، و بالوجوه التي ينفق فيها تلك التبرعات ، و لكن السيدة كاتبة الرسالة لم يكن يعنيها أن تبحث عن الحقيقة في هذا الشأن ، بل كان همّها أن تشبع رغبة نفسها الأمارة بالسوء ، و تستمتع بالنيل من إنسان تعتقد أنه أقوى شخصية منها أو من زوجها .
و في ذلك يقول " شوبنهاور " : " إن الرجل الخسيس يجد متعة في تلفيق الأخطاء و افتراء الأكاذيب لينال بها من العظماء ز ذوي الخلق العظيم " .

على أن هذه العادة السيئة ليست وقفا على طبقة من الناس . و لعلّ أحدا لم يكن ليتصور أن مديرًا سابقا لجامعة ييل الكبيرة يجد لذة في تشويه سمعة رجل فاضل هو " توماس جيفرسون " رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق الذي اشتهر بانتصاره للديمقراطية و الأخلاق الفاضلة طوال حياته . 
فحينما كان جيفرسون مرشحا للرئاسة لم يتورع مدير الجامعة أن يقول : " إذا قدّرَ لهذا الرجل أن يكون رئيسا لبلادنا فسنرى في عهده زوجاتنا و بناتنا يرتكبن الدعارة علنا و ستنهار كل الفضائل و يعم الإلحاد " .

و من كان يتصور أن " جورج واشنطون " العظيم يقال عنه أنه مجرم محتال ، و أن يصل الأمر بحساده و الحاقدين عليه .. إلى أن يصوّروه في إحدى صحفهم المأجورة في صورة مجرم محكوم عليه بالإعدام ، في انتظار جز عنقه ، و أن يكتبوا تحت هذه الصورة : " هكذا ينبغي أن يكون مصيره " . 

و هناك " الأميرال بيري " – أحد مكتشفي القطب الشمالي – فإنه حين أدهش العالم برحلته الموفقة التي حققت أحلام ألوف من العلماء الذين سبقوه ، و بعد أن أشرف في سبيل ذاك على الموت جوعا ، و تجمدت أصابع قدميه من شدة البرد فاضطر الأطباء إلى بتر ثمانية منها ، و كاد أن يفقد عقله لفرط ما عاناه من المتاعب خلال رحلته ، ما كاد يعود منها ظافرا ، حتى حسده رؤساؤه في الجيش فاتهموه بتبديد المال الذي جمعه للقيا ببعثات علمية و بأنه أنفقه بغير حساب على نفسه و أعوانه . و كان من نتائج هذه الحملات المغرضة و الاتهامات الباطلة أن انفض من حوله كثيرون من مشجعيه ، و تعذر عليه مواصلة رحلاته العلمية المفيدة . و لو أنه قنع بالجلوس إلى مكتبه مثل أولئك الرؤساء ، ما بلغ هذه العظمة التي أثارت ضده حسد الحاسدين و حقد الحاقدين . 

و حدث مثل هذا ، و أكثر منه ، الجنرال " غرانت " أثناء حرب التحرير بالولايات المتحدة .. فقد ظفر بنصر عظيم في إحدى المواقع أثار دهشة جميع القراء .. و مع ذلك لم تمضي ستة أسابيع حتى قبض عليه ، لتهمة باطلة و جهها إليه الحاسدون من الرؤساء و الزملاء ، فلم يسعه إلا أن يبكي حزنا و أسفا على مقابلة إحسانه بالإساءة و الجحود . 
و أخيرا ، هل يقلقك أن يكثر الناس من نقدك و ذمّك بالباطل : إذا كان الأمر كذلك فأذكر أن هذا النقد ، ليس إلا تهنئة متنكرة .. و اذكر المثل السائر الذي يقول : " إن الكلب الميت لا يرفسه أحد "